“العلاقات التركية–الفرنسية في سوريا بعد الأسد: توازن المصالح واختلاف الرؤى”

القاهرة: «خليجيون 24» .
كتبت/ مي عبد المجيد
منذ سقوط نظام الأسد، لم تعد خارطة التحالفات في سوريا مرهونة فقط بتموضع الفاعلين التقليديين، بل بدأت ترتسم وفق خطوط تماس إقليمية ودولية مغايرة، تحاول فيها قوى أكثر تقليدية وتجذرا في الملف السوري كتركيا و قوى مثل فرنسا أقل حضوراً بالمقارنة مع نفوذ أنقرة؛ أن تعيد صياغة حضورها بما يتجاوز المنطق العسكري إلى أشكال ناعمة من النفوذ المؤسسي والسياسي والاقتصادي. هنا، يصبح السؤال حول طبيعة العلاقة بين أنقرة وباريس أكثر إلحاحاً ومتصلاً فيما إذا كنا أمام احتمالية تنسيق قائم على تقاطع المصالح، أم أن التنافس الصامت أو العلاقات المتذبذبة يمكن أن تتحول إلى صراع علني على إعادة تشكيل المجال السوري؟
مسار العلاقات الفرنسية–التركية عبر البوابة السورية
خلال السنوات القليلة الماضية، اتخذت العلاقات الفرنسية–التركية طابعاً تنافسياً في عدد من الملفات الإقليمية، من بينها الساحة السورية. وقد ظهر هذا التباين بشكل واضح منذ انخراط فرنسا ضمن التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” في شمالي سوريا بدءاً من عام 2014، حيث اصطدمت المقاربة الفرنسية بموقف تركي معترض على دعم التحالف لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية. بالنسبة لأنقرة، مثّل ذلك الدعم تهديداً مباشراً لأمنها القومي، بالنظر إلى ارتباط تلك الوحدات بـ”حزب العمال الكردستاني” المصنّف كتنظيم إرهابي لدى تركيا وعدد من الدول الغربية. وعلى هذا الأساس، شنت القوات التركية إلى جانب فصائل سورية متحالفة معها، عمليات عسكرية متكررة ضد مواقع “الوحدات”، وهو ما قوبل بتحفظات فرنسية علنية، عكست اتساع الفجوة بين رؤيتي البلدين لأمن المنطقة وطبيعة الشراكات الميدانية فيها.
تاريخياً، لم تكن العلاقات التركية–الفرنسية في سوريا ذات طابع تقليدي. ففرنسا، التي تحمل إرثاً استعمارياً في المشرق، تنظر إلى سوريا كمساحة ذات حمولة رمزية وجيوثقافية. في المقابل، ترى تركيا في سوريا امتداداً لأمنها القومي ومسرحاً مركزياً في استراتيجيتها الإقليمية.
وعلى الرغم من أن بوادر تهدئة محدودة بين أنقرة وباريس بدأت بالظهور منذ عام 2021، لا سيما في أعقاب “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة”، فإن التحولات الجيوسياسية الكبرى، وعلى رأسها الحرب في أوكرانيا، دفعت الطرفين إلى تعزيز موقعيهما داخل الناتو، ما أعاد تشكيل قنوات تفاهم جزئي بينهما في ملفات مختلفة، بما في ذلك سوريا.
غير أن ذلك التقارب النسبي لم ينجح لاحقاً في تجاوز منطق الضرورة الظرفية إلى بناء ثقة استراتيجية مستدامة. ظلّ كل طرف يراقب الآخر، من دون أن تتبلور بينهما آلية واضحة لتنسيق فعلي، لا في شرق المتوسط، ولا في ليبيا، ولا حتى داخل مؤسسات الحلف الأطلسي نفسه. التباينات حول توزيع الأدوار وشكل النفوذ، وتقاطعات المصالح في مناطق النفوذ القديمة–الجديدة، سرعان ما أطاحت بالهدوء المؤقت، لتعيد العلاقات إلى مسافة باردة.
ومع انحسار الدور الروسي إثر سقوط الأسد، وجدت الدولتان نفسيهما أمام فراغ سياسي وأمني مغرٍ، لكنه بالغ الحساسية، وسط مؤشرات متنامية على تقاطع مصالح جزئية، خصوصاً في مجالات إعادة الإعمار، وإعادة ضبط الأدوار الإقليمية لإيران وروسيا ضمن المعادلة السورية.
في الثامن من شباط/فبراير الماضي، أعرب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، عن رغبته في وضع أجندة إيجابية للعلاقات مع تركيا.
الرئيس الفرنسي أشار في ذلك الوقت إلى أن بلاده تولي أهمية لعملية انتقالية شاملة تحترم جميع شرائح المجتمع، مؤكداً أن بلاده ملتزمة وحدةَ وسيادة سوريا.
وفي مطلع نيسان/أبريل الماضي وصل وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، إلى العاصمة الفرنسية باريس في زيارة رسمية يُنظر إليها كمحطة جديدة في مسار العلاقات التركية الفرنسية التي شهدت توترات خلال السنوات الماضية.
وجاءت الزيارة في سياق مساعٍ متبادلة لتهدئة الخلافات وإعادة الزخم للتواصل الدبلوماسي بين أنقرة وباريس، بعد سلسلة من الخطوات التي عكست رغبة الجانبين في تحسين العلاقات مؤخرا.
والتقى فيدان بنظيره الفرنسي وزير الدولة لشؤون أوروبا والخارجية جان نويل بارو، حيث شملت محادثاتهما تعزيز العلاقات الثنائية ومناقشة تطورات إقليمية ودولية ملحة، كان في مقدمتها الملف السوري.
باريس وأنقرة في لحظة اختبار سوري
العلاقة بين باريس وأنقرة في سوريا تتحرك على إيقاع الضرورات أكثر من كونها تعبيراً عن توافق استراتيجي، فبين لحظات التوتر والانفراج المحدود، تتبدّى مقاربات الطرفين بوصفها محاولات متوازية لإعادة التموضع، لا انخراطاً ضمن شراكة واضحة.
فرنسا، التي لم تنخرط عسكرياً على الأرض كما فعلت تركيا، تحاول الحفاظ على موطئ قدم ولو رمزي في الملف السوري من خلال نشاطها الدبلوماسي في بعض المحافل الغربية، ومن خلال مشاركتها في النقاشات الأوروبية المتصلة بمستقبل الإعمار وعودة اللاجئين؛ لكنها لا تملك أدوات نفوذ حاسمة داخل الميدان السوري.
أما تركيا، فوجودها الميداني الواسع يرتكز على منظومة من التفاهمات الأمنية والعسكرية، مدعومة بترتيبات لوجستية واقتصادية وإدارية. وفي ضوء الانكفاء الأميركي، تسعى أنقرة لإعادة تسويق دورها بوصفه عامل استقرار، من دون أن تُظهر استعداداً للتراجع عن محدداتها الأمنية في التعامل مع الملف الكردي أو مع ترتيبات ما بعد الأسد.
في هذا السياق، قد لا يبدو أن الجانبين بصدد تطوير تنسيق مباشر أو تقاسم أدوار، بقدر ما يحاول كل طرف تفادي التصادم مع الآخر، لا سيما في الملفات المتداخلة مثل ملف اللاجئين، وضبط الحضور الإيراني والروسي في المعادلة الانتقالية. ومع بروز السلطة الانتقالية السورية الجديدة، تعيد باريس وأنقرة حساباتهما، كل من موقعه، من دون أن تتقاطع رؤيتهما سوى في الحد الأدنى من المصالح الظرفية.
رغم أن ملف اللاجئين السوريين لا يُعد موضوعاً محورياً معلناً في العلاقة التركية–الفرنسية، إلا أنه يظل حاضراً كعنصر خفي في التفاعلات الثنائية بين البلدين، خصوصاً في ظل ارتباطه المباشر بالأمن الإقليمي والسياسات الأوروبية للهجرة. فرنسا، بصفتها دولة فاعلة في هندسة السياسات الأوروبية العامة للهجرة، تولي اهتماماً خاصاً بمسارات العودة، وضبط الحدود، وتنسيق الجهود مع الدول الإقليمية، ومن ضمنها تركيا.
أما تركيا، التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين السوريين، فإنها تنظر إلى هذا الملف من زاوية مركّبة تتصل بضرورات الاستقرار الإقليمي، وإعادة تأهيل المناطق السورية، والتعامل العملي مع المتغيرات على الأرض. ومن هذا المنظور، يمكن للعلاقة بين باريس وأنقرة أن تفتح مجالاً لتنسيق عقلاني يوازن بين الحاجة إلى ضمان العودة الطوعية الآمنة للاجئين من جهة، والحفاظ على الاستقرار السياسي–المجتمعي في المنطقة من جهة أخرى.
وفي تحليل نشره مركز Esthinktank في بروكسل خلال أيار/مايو الماضي، جرى تسليط الضوء على التعقيد الكامن في العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي – ومن ضمنه فرنسا – خاصة فيما يتعلّق بملف اللاجئين السوريين. فقد أشار التحليل إلى أن التعاون الأوروبي مع أنقرة بشأن قضايا الأمن والهجرة يظل رهيناً بمعادلة دقيقة من الثقة والبراغماتية، إذ يرى الأوروبيون، ومنهم صانعو القرار في باريس، أن الدور التركي لا يمكن فصله عن اعتباراتهم المتعلقة بالحوكمة والحقوق، في حين تنظر تركيا إلى ملف اللاجئين بوصفه عنصراً سيادياً يتداخل مع أمنها الداخلي ودوائر نفوذها الإقليمي. هذه التباينات تُظهر كيف يمكن لملف اللاجئين أن يتحول من نقطة خلاف إلى أرضية تفاهم إذا ما أُعيد تأطيره ضمن مسار تفاهمات إقليمية–أوروبية جديدة.
ومع نشوء السلطة الانتقالية الجديدة في سوريا، تتزايد الحاجة إلى بلورة مقاربات مشتركة تضمن احترام كرامة اللاجئين، وتُراعي المعايير الدولية، من دون أن تتحول المسألة إلى نقطة تجاذب أو تنافس سياسي، بل إلى مساحة تفاهم وظيفي ممكنة يمكن أن تُشكّل جزءاً من أجندة العلاقات التركية–الفرنسية في المرحلة المقبلة، ضمن أطر أوروبية–إقليمية أوسع.
يُمكن مقاربة العلاقة بين تركيا وفرنسا في سوريا ضمن ما يسمى بـ “التموضع غير المتناظر”، أي حالة يُسجّل فيها فاعلان حضورهما ضمن ساحة واحدة من دون أن يكونا في علاقة تنسيقية كاملة، ولكن من دون الوصول إلى مستوى التصادم الصريح.
تركيا تُوظّف ما يمكن تسميته بـ”الأدوات التشاركية المرنة”، التي تتيح لها التكيف مع التغيرات السياسية من دون إلغاء تموضعها القائم على مركّب أمني–اقتصادي، بينما تعتمد فرنسا على مقاربة “الوجود الرمزي الموسّع”، عبر أدوات القوة الناعمة والمؤسساتية.
وفي تقرير صادر عن “المركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية بباريس – IRIS” نُشر مطلع العام الجاري، فقد أشار إلى أن الاستراتيجية التركية في سوريا باتت تتحرك ضمن منطق إعادة التموضع الجيوسياسي، في ضوء تغير مواقف بعض الحلفاء التقليديين، وتبدّل ديناميكيات القوة في الإقليم. ووفقاً للباحث الفرنسي ديدييه بيون، فإن تركيا تسعى إلى ترسيخ دورها كفاعل محوري في المعادلة السورية، ليس فقط من خلال النفوذ الميداني، بل أيضاً عبر التكيّف مع التحولات السياسية والاقتصادية في مرحلة ما بعد الأسد، وهو ما يفتح الباب أمام تقاطعات أو توترات مع فاعلين مثل فرنسا، الذين يتعاملون مع الملف السوري من زاوية مختلفة تقوم على استعادة التوازن المؤسسي لا الميداني.
رغم ارتباط فرنسا وتركيا في السياق السوري بتاريخ من التنافس المعقّد، إلا أن المعطى الجديد المتمثل بانهيار نظام الأسد قد فرض تحوّلاً في منطق التدخل ذاته؛ فلم تعد تركيا معنية بضبط “الجغرافيا–الحدود”، ولم تعد فرنسا معنية حصراً بـ”الشرعية”، إنما تسعى كل منهما إلى بلورة تمثّل خاص لإدارة مرحلة اللايقين الانتقالي، بما يتجاوز مجرد الحضور إلى التأثير في نمط التأسيس ذاته.
كما يُمكن قراءة التفاعل الفرنسي–التركي في سوريا ضمن سياق أوسع يمتد إلى دوائر التنافس الجيوسياسي في إفريقيا. إذ يتقاطع حضور البلدين في مناطق النفوذ القديمة مثل الساحل الإفريقي وغربي إفريقيا، حيث تسعى فرنسا إلى استعادة تموضعها في مواجهة تراجع نفوذها التقليدي، في حين تعمل تركيا على تعميق شراكاتها الاقتصادية–الرمزية، ولا سيما في دول مثل النيجر، السنغال، وليبيا. هذا التداخل قد يُلقي بظلاله لاحقاً على الساحة السورية، ويجعل منها حلقة جديدة في سلسلة إعادة تشكيل النفوذ جنوب المتوسط.
الاقتصاد كنافذة نفوذ
في مرحلة ما بعد الأسد، يبرز ملف إعادة الإعمار ليس فقط بوصفه مدخلاً اقتصادياً، بقدر ما سيكون أحد أكثر ساحات النفوذ حساسية بين الفاعلين الإقليميين والدوليين، ومن ضمنهم فرنسا وتركيا. تتقاطع مصالح البلدين في هذه المساحة بدرجات متفاوتة، لكنها وإن لم تلتقي ضمن رؤية استراتيجية موحدة، لكنها تتحرك في اتجاهات متوازية تُدار ضمن براغماتية عالية وتقديرات دقيقة للفرص والمخاطر.
فرنسا، التي تمتلك خبرات عريقة في مجال البنى التحتية وشبكات الخدمات العامة، تدرك أن الدخول إلى ساحة الإعمار السورية لا يمر فقط عبر الاستثمار الاقتصادي، وإنما من خلال هندسة سياسية مسبقة تضمن لها مشروعية الدور. ولهذا، تتبنى باريس مقاربة مشروطة تربط بين أي انخراط مالي أو هندسي وبين التقدم الفعلي في مسار سياسي ذي مصداقية، يحترم مبادئ حقوق الإنسان، ويعيد توزيع السلطة داخل سوريا على أسس تمثيلية واضحة.
تُثير تجربة فرنسا في لبنان بعد اتفاق الطائف تساؤلات مشروعة حول إمكانية الاستفادة من بعض أوجهها لفهم تحركات باريس في الملف السوري الراهن. آنذاك، اضطلعت فرنسا بدور فاعل في دعم الترتيبات السياسية والمؤسساتية لما بعد الحرب، مستفيدة من شبكة علاقاتها الإقليمية والدولية، ومن بيئة توافقية نسبية سادت المشهد اللبناني بدفع مشترك من قوى إقليمية كبرى وغطاء دولي واضح.
لكن المشهد السوري اليوم يختلف في بنية التوازنات وفي حضور اللاعبين الإقليميين. فلم تعد معادلات التأثير تحكمها نفس القوى التقليدية، وإنما باتت أكثر تنوعاً وتشابكاً، سواء من حيث طبيعة الجهات الفاعلة أو شكل تدخلاتها. كذلك، فإن الدور الفرنسي نفسه قد تغيّر مقارنةً بتلك المرحلة، إذ لم تعد باريس تمارس نفوذاً مباشراً أو واسع النطاق في شرق المتوسط كما في السابق، فهي باتت تتحرك ضمن هامش أضيق، في ظل تراجع نسبي لدورها في منظومة العلاقات الدولية، وتحول أولوياتها نحو ملفات أوروبية وأفريقية أكثر إلحاحاً.
ومع ذلك، لا يعني ذلك غياب الفعالية الفرنسية، وإنما تحوّل أدواتها وآلياتها. إذ تسعى فرنسا اليوم إلى بلورة شكل مختلف من الحضور، يستند إلى دعم مؤسساتي، ودبلوماسية متعددة الأطراف، ومقاربة تراعي المعايير الحقوقية والدستورية لمسار ما بعد الصراع. وبدلاً من تكرار النموذج اللبناني، تبدو باريس في سوريا أقرب إلى بناء مقاربة حذرة طويلة المدى، تراهن على لحظة توازن إقليمي–دولي تتيح لها دوراً وظيفياً ضمن ترتيبات إعادة الإعمار وبناء الشرعية، ولكن في إطار أكثر تشاركاً، وأقل مركزية.
في المقابل، تتحرك تركيا على أرض الواقع بمنطق القوة الواقعية؛ إذ بنت خلال السنوات الماضية بنية لوجستية–خدمية واسعة في مناطق نفوذها شمالي سوريا. شركات المقاولات التركية، المدعومة بترتيبات سياسية–أمنية، يمكن لها لعب دور في القطاعات الصغيرة والمتوسطة؛ من بناء المجمعات السكنية إلى تشغيل المعابر والأسواق وربط الخدمات الصحية والتعليمية ببنية الدولة التركية نفسها. بهذا المعنى، يتجاوز الدور التركي كونه خطة إعمار إلى كونه استراتيجية لإعادة هندسة المجال الجغرافي–الديمغرافي بما يعزز من عمقها الاستراتيجي جنوباً.
في هذا السياق فقط تناول تقرير صادر عن المجلس الأطلسي في مطلع حزيران/يونيو الجاري، مسألة التنافس على ملفات إعادة الإعمار والاستثمار في سوريا، مشيراً إلى أن الأطراف الإقليمية والدولية، ومن بينها فرنسا وتركيا، لا تزال تتحرك بحذر في هذا الملف، بسبب غياب توافق دولي ملزم أو إطار تمويلي واضح. وذكر التقرير أن “الفاعلين الإقليميين مثل السعودية وتركيا وقطر قد يكونون مستعدين للمساهمة في إعادة الإعمار، لكنهم لن يفعلوا ذلك في ظل استمرار العقوبات وعدم توفر مظلة دولية قانونية متفق عليها”. هذه الملاحظة تؤكد أن فرص التفاهم بين باريس وأنقرة، في هذا المجال تحديداً، لا تزال مشروطة بمدى قدرة القوى الدولية على توفير بيئة قانونية–سياسية تحمي مصالح الفاعلين وتحد من الاحتكاك فيما بينهم.
الفجوة بين المقاربتين قد لا تعود فقط إلى تفاوت الوسائل المستخدمة، وإنما أيضاً إلى تباين المرجعيات التي يستند إليها كل طرف في مقاربته لملف الإعمار. إذ تميل فرنسا إلى ربط أي انخراط محتمل في جهود الإعمار بمحددات سياسية واضحة، تشمل توفير بيئة مؤسساتية ضامنة ومسار سياسي قابل للمساءلة، في حين تتحرك تركيا ضمن رؤية عملية تستند إلى حضورها الميداني، وتستهدف توسيع دور شركاتها في القطاعات الخدمية واللوجستية، بما ينسجم مع شبكات النفوذ والإدارة المحلية لا سيما القائمة في مناطق الشمال السوري.
في ظل غياب تمويل دولي واسع النطاق حتى الآن، قد لا تجد أنقرة وباريس نفسيهما في سباق مباشر، وإنما أقرب إلى توزيع نفوذ غير مُعلن؛ بحيث تتحرك تركيا في بيئة وظيفية محلية ترتكز على الجغرافيا واللوجستيات، بينما تنتظر فرنسا فتح نافذة دولية؛ ربما برعاية أوروبية–أممية تُمكّنها من إعادة الدخول كمستثمر سياسي أولاً، واقتصادي ثانياً، ضمن ترتيبات جديدة لإعادة الشرعية.
لذلك، فإن احتمالات التعاون بين الجانبين، تبقى مرهونة بمدى نشوء آلية تفاهمية إقليمية-دولية توفّر مساحة عمل مشتركة دون أن تُخل بمحددات كل طرف. وبهذا، يتحوّل ملف الإعمار إلى مختبر حقيقي لإمكانية بناء تفاهمات أوروبية–إقليمية جديدة، تتجاوز صيغ المواجهة القديمة، وتؤسس لمنطق نفوذ متعدد الأطراف بدل الاحتكار الأحادي.
في سياق ما بعد سقوط نظام الأسد، لا ينحصر التفاعل الفرنسي–التركي ضمن سباق تقليدي على النفوذ بقدر ما يتموضع داخل مسعى مزدوج لإعادة تعريف أدوار الفاعلين الإقليميين في ظل نظام دولي متغير. فالمسألة لم تعد تتعلق بتوسيع المجال الحيوي بقدر ما باتت مرتبطة أيضاً بصياغة معاني الفاعلية الإقليمية وشروطها في مشهد تتقاطع فيه التحولات المحلية مع إعادة توزيع مراكز القرار الدولي.
تطرح هذه المرحلة إشكالية محورية تدور حول إمكانية هندسة شكل من الشراكة الوظيفية بين باريس وأنقرة، تُنظَّم ضمن مسار تنسيق دولي متعدد الأطراف، يراعي حساسية التوازنات الميدانية والسياسية، ويسمح بتوزيع منضبط للأدوار، أم أن تباين الأولويات ومرجعيات الفعل السياسي سيُعيد إنتاج أنماط التنافس، وإن بصيغة أكثر مرونة مما سبق.
في ظل الغياب النسبي للأدوار التقليدية لكلٍّ من واشنطن وموسكو، ومع بروز السلطة الانتقالية الجديدة في سوريا، تبدو العلاقة بين باريس وأنقرة مرشّحة للتطور وفق مسارات متباينة، تحددها طبيعة التحولات الإقليمية والدولية في المرحلة المقبلة. ففي ضوء إعادة تشكيل موازين النفوذ، واحتدام التنافس على ملفات الإعمار واللاجئين وإعادة الشرعية، تبرز ثلاثة اتجاهات رئيسية يُمكن أن ترسم ملامح العلاقة بين الطرفين داخل الساحة السورية.
الاتجاه الأول يتمثل في تبلور آلية تفاهم أوروبية–إقليمية تتيح تنسيقاً وظيفياً محدوداً بين باريس وأنقرة، يُدار في إطار تقاطع مصالح مرحلية من دون أن يرتقي إلى مستوى الشراكة السياسية الكاملة. أما الاتجاه الثاني، فقد يتجلى مع دخول أطراف إقليمية أو دولية إضافية، كالسعودية أو مؤسسات الاتحاد الأوروبي، بما قد يُفضي إلى إعادة توزيع الأدوار في ملفات الإعمار وضبط المرحلة الانتقالية، وهو ما يُمكن أن يفتح نافذة جديدة لإعادة صياغة التموضع الفرنسي–التركي.
في المقابل، يبقى الاحتمال الثالث قائماً، ويتمثل في استمرار العلاقة على وتيرتها الحالية، حيث تُدار التفاهمات على قاعدة ظرفية ضيّقة من دون رؤية استراتيجية طويلة الأمد، ما يُبقي العلاقة عرضة لتقلبات متكررة في ظل مشهد سوري لم يستقر بعد على توازن واضح أو بيئة انتقالية مكتملة الأركان.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر