الصين تعزز جاهزيتها النووية.. وتقترب من «عقيدة» الإطلاق عند الإنذار

إن توسع الصين السريع في إنشاء صوامع الصواريخ، وتطوير قدرات الإنذار المبكر، وتبني مفهوم عملياتي يقترب من إطلاق الصواريخ عند تلقي الإنذار، يشير إلى تحول جوهري في عقيدتها النووية. ويعكس هذا التوجه تحولاً واضحاً من سياسة الردع المحدودة نسبياً إلى الوضع النووي الذي يتسم بدرجة عالية من الاستعداد، وهو ما قد يعيد تشكيل معادلات الاستقرار الاستراتيجي في مناطق التوتر الحساسة، بدءاً من مضيق تايوان ووصولاً إلى علاقاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة.
وفي هذا الشهر، أصدر البنتاغون تقريره السنوي حول القدرات العسكرية الصينية، والذي ذكر أن بكين تمتلك على الأرجح أكثر من 100 صاروخ باليستي من طراز DF-31 يعمل بالوقود الصلب.
تعمل هذه الصواريخ من ثلاثة مواقع إطلاق تم إنشاؤها حديثًا بالقرب من الحدود الصينية مع منغوليا، مما يشير إلى توسع منظم ومتعمد للبنية التحتية النووية في الصين.
ويمثل هذا التطور تحولاً حاسماً في حجم الاستعداد، وطبيعة العمليات، ومنطق الردع النووي الصيني. ويرتبط هذا التحول ارتباطاً وثيقاً بسعي بكين إلى اعتماد استراتيجية تقوم على الإنذار المبكر والهجوم المضاد، وهي استراتيجية قريبة في المضمون من مفهوم إطلاق الصواريخ فور تلقي إنذار بهجوم وشيك.
تحول نوعي
وفي هذا السياق، نفذت القوة الصاروخية التابعة لجيش التحرير الشعبي الصيني، في ديسمبر 2024، عمليات إطلاق متتالية وسريعة لصواريخ باليستية عابرة للقارات من أحد مراكز التدريب. وبحسب التقرير الأمريكي، فإن هذا النشاط يتماشى مع التدريب على الإجراءات المطلوبة لإطلاق عدة صواريخ من صوامع مختلفة في ظروف ضيق الوقت، مما يعكس الاستعداد العملي لسيناريوهات الرد السريع.
وتدعم عمليات التحميل لهذه الصوامع استثمارات موازية في أنظمة الإنذار المبكر، بما في ذلك أقمار الأشعة تحت الحمراء، بالإضافة إلى رادارات كبيرة بعيدة المدى تعمل بشكل متكامل. ومن شأن هذا النظام، عند تشغيله بطريقة منسقة، أن يمنح القيادة الصينية القدرة على مراقبة أي ضربة محتملة في مراحلها الأولى، وإصدار أوامر بالرد قبل انفجار الرؤوس الحربية للعدو.
ورغم أن حجم الترسانة النووية الصينية يقدر بنحو 600 رأس نووي خلال عام 2024، فإن تقرير البنتاغون يؤكد أن التوسع في إنشاء الصوامع لا يعكس مجرد زيادة عددية في الرؤوس النووية، بقدر ما يشير إلى تحول نوعي في طبيعة الردع، حيث يوفر هذا التوسع سرعة أكبر في الرد على أي هجوم متوقع، ويعزز قدرة الصواريخ على البقاء، ويوفر خيارات رد أكثر فعالية.
وتشير هذه التطورات مجتمعة إلى أن الصين تتحرك نحو التخلي تدريجيا عن نموذج الردع النووي المحدود، وتبني بدلا من ذلك استراتيجية مصممة للتعامل مع الأزمات النووية المتصاعدة بسرعة، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تغيير عميق في ديناميكيات الاستقرار الاستراتيجي الإقليمي والدولي.
نسخة محسنة
ووفقا لتقرير صادر عن مجلة نشرة علماء الذرة في مارس 2025، فإن الصاروخ DF-31 هو صاروخ باليستي عابر للقارات يعمل بالوقود الصلب وقابل للنقل البري، ويوفر للصين قدرة موثوقة على تنفيذ ضربة نووية ثانية يمكن النجاة منها. ويشير التقرير إلى أن هذا الصاروخ، الذي دخل الخدمة لأول مرة في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، يقدر مداه بنحو 7200 كيلومتر، ويعتقد أنه يحمل رأسا نوويا. واحد بقوة تدميرية تصل إلى مئات الكيلوطن.
لكن الصاروخ DF-31 لم يعد مدرجا في التقييمات الأمريكية الأخيرة، حيث يعتقد أنه يخضع للسحب التدريجي من الخدمة أو يتم استبداله بإصدارات أكثر تقدما توفر مدى أطول ومرونة تشغيلية أكبر.
ووفقا لقاعدة بيانات أودين الصينية، فمن المحتمل أن يكون هذا الصاروخ قد تم تطويره إلى نسخة محسنة تعرف باسم DF-31BG، والتي تتمتع بالقدرة على حمل رؤوس حربية مستقلة متعددة.
وفي تقرير أصدرته وكالة الحد من التهديدات الدفاعية الأمريكية (DTRA) في يوليو 2025، أشار الخبيران الأمريكيان ديفيد لوجان وفيليب سوندرز إلى أن النسخة الجديدة، DF-31BG، ستمنح الصين القدرة على تنفيذ هجمات نووية بعد اكتشاف ضربة وشيكة، ولكن قبل حدوثها فعليا. كما يتراوح مدى هذا الصاروخ بين 11.2 ألف كيلومتر و13 ألف كيلومتر، مما يسمح له باستهداف معظم أراضي الولايات المتحدة.
ويرى لوغان وسوندرز أن هذه التطورات لا تلغي رسميا سياسة الصين المعلنة بعدم البدء في استخدام الأسلحة النووية، حيث يظل الرد مشروطا برصد هجوم محتمل، لكن هذه النسخة المتقدمة توسع عمليا نطاق هذه السياسة، من خلال تقليص وقت اتخاذ القرار، وزيادة مخاطر سوء التقدير أو التحذيرات الكاذبة، وإمكانية اشتراط الحصول على إذن مسبق لسلطة الإطلاق، مما قد يضعف الضوابط السياسية التقليدية المرتبطة بهذه السياسة.
الدفاع الصاروخي
وبالتوازي مع تحديث قدراتها الهجومية، تعمل الصين أيضًا على تطوير قدراتها في مجال الدفاع الصاروخي. وقال الكاتب أليكس ريختر، في مقال نشر مؤخرا في مجلة نشرة علماء الذرة، إن تطوير الصين لقدرات الدفاع الصاروخي على المستويات المنخفضة والمتوسطة يرتبط ارتباطا وثيقا بتمكين دفاع صاروخي استراتيجي شامل، وليس فقط بتسهيل الرد النووي السريع.
وأوضح ريختر أن الاعتراض الفعال للصواريخ الباليستية بعيدة المدى خلال مرحلة منتصف المسار يتطلب بنية تحتية متقدمة للإنذار المبكر، تشمل أقماراً صناعية تعمل بالأشعة تحت الحمراء ورادارات بعيدة المدى، وهي نفس المكونات الأساسية لأنظمة الدفاع الصاروخي. ومن خلال بناء هذه البنية التحتية، تضع الصين الأساس لنظام دفاع صاروخي متعدد الطبقات. لكن امتلاك الصين لنظام دفاع صاروخي يمكن الاعتماد عليه، بحسب ريختر، قد يقوض مفهوم الضعف المتبادل ويدفع المعارضين إلى تبني أسوأ السيناريوهات الممكنة، مما قد يساهم في تسريع سباق التسلح. خاصة مع سعي الولايات المتحدة لتطوير وسائل قادرة على اختراق أي درع صاروخي صيني مستقبلي.
تداعيات خطيرة
وتحمل هذه التحولات تداعيات خطيرة في حال اندلاع أزمة في مضيق تايوان. ووفقا لتقرير صادر عن المجلس الأطلسي في نوفمبر 2023، فإن توسع الصين في نشر الصواريخ الباليستية العابرة للقارات يعزز ثقتها في قدرتها على تنفيذ ضربة نووية ثانية ناجحة، مما يمنحها هامشا أكبر لتحمل المخاطر النووية في سياق صراع محتمل على تايوان، بهدف ردع التدخل الأمريكي والسيطرة على وتيرة التصعيد.
ويشير التقرير إلى أن الصين قد تلجأ في أوقات الأزمات إلى رفع مستوى جاهزيتها النووية، أو إطلاق تهديدات نووية غير مباشرة، أو إظهار تشدد في موقفها النووي لتعزيز الردع، حتى لو كان ذلك ينطوي على مخاطر تصعيد غير محسوبة. عن “آسيا تايمز”
التحديات الأساسية
ويواجه برنامج التحديث النووي الصيني تحديات جوهرية، وأبرزها الاحتياطيات الصينية المحدودة من اليورانيوم العالي التخصيب. وبحسب الهيئة الدولية للمواد الانشطارية فإن هذا الاحتياطي بلغ نحو 14 طنا في مايو 2025، وهو رقم متواضع مقارنة باحتياطي الولايات المتحدة المقدر بنحو 481 طنا في 2024، واحتياطي روسيا من اليورانيوم عالي التخصيب غير المشع الذي بلغ نحو 680 طنا في العام نفسه.
وهذا الاحتياطي المحدود قد يفرض قيودا على عدد الرؤوس النووية التي يمكن أن تنتجها الصين، وهو ما قد يدفعها إلى التعويض عن ذلك من خلال تحسين دقة أنظمة إطلاقها، أو تطوير مفاهيم بديلة لإيصال الأسلحة النووية، بما في ذلك أنظمة القصف المداري الجزئي، في محاولة لتعزيز فعالية رادعها الاستراتيجي.
. إن التحول في العقيدة النووية الصينية قد يعيد تشكيل معادلات الاستقرار الاستراتيجي في مناطق التوتر الحساسة.
. وتتجه الصين نحو التخلي تدريجيا عن نموذج الردع النووي المحدود.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر




