الانبهار المزمن بالغرب.. أو العودة إلى ثقافة الأرض؟

“الأرض تتكلم العربية” أغنية عربية شهيرة ظهرت في الستينيات، وما تعنيه هذه العبارة، بخلاف عنوان الأغنية الشهيرة، هو أن كل أرض تتكلم لغة أهلها، وهذا هو التفسير الواضح لهذه الكلمات، وفي الواقع فإن العكس صحيح أيضاً، فالناس في أي جزء من العالم يتكلمون لغة أرضهم أو يعيشون ثقافتها، فمنذ آلاف السنين كان الإنسان “مغروساً” ومزارعاً في الأرض، يعيش هويته ـ هويتها ـ الزراعة (أن تكون وعاءً لزراعة النباتات، وعاءً للزرع)، يعيش النمط الزراعي والثقافة الزراعية المتشابهة في أسسها في كل مكان تقريباً مع تنوعات تناسب الظروف البيئية والمناخية وتناسب التضاريس.
لقد نشأت الثقافات الأرضية والثقافات الزراعية على ضفاف الأنهار الكبرى والصغرى، ولأن حضارات الفرات ودجلة والنيل والجانج والأصفر والمسيسيبي كانت معروفة على مستوى العالم، فقد نشأت على الأنهار الصغرى مثل نهر العاصي ثقافات أخرى لا تقل قدماً وأصالة وجمالاً عن تلك التي وصلت شهرتها إلى الآفاق.
والحقيقة أن ثقافات الأرض تنقسم إلى نوعين أو ثلاثة أنواع: ثقافة الأنهار، وثقافة الأرض والسماء، وثقافة الصحراء.
الأولى والأكثر استقراراً هي ثقافات النهر التي أنتجت إنساناً كان واثقاً من توفر المياه كمصدر ثابت ودائم للزراعة.
الثانية هي ثقافة الأرض والسماء، وهي كل ثقافة ولدت في مكان بعيد عن الأنهار حيث تحتاج الأرض إلى المطر من السماء، فيركز عقل وضمير أهلها على السماء منتظراً المطر، فيرسمون سياستهم الزراعية والاجتماعية وفقاً لموسم الأمطار.
وثالثها ثقافة الصحراء حيث لا أنهار ولا أمطار، بل أرض وعشب وينابيع وواحات لابد من معرفة مواقعها وأوقات عطائها وجريانها، حتى يصبح البدوي مسافراً يجوب الصحراء، يسترشد ـ كالبحارة ـ بنجوم السماء، يعرف تضاريسها كما يعرف الأرض، ليصبح فلكياً قبل اكتشاف علم الفلك.
وللأسف الشديد لعب الأدباء والمثقفون العرب، وخاصة في بلاد الشام ومصر، دوراً مضللاً لجمهور الدرجتين الثانية والثالثة من المثقفين والمتعلمين، وللنخبة العامة والجمهور، بسبب اعتمادهم العقلي والفكري الكامل على الثقافة الغربية المعادية لثقافة الأرض. وقد تأسس الغرب الجديد عدة مرات: المرة الأولى مع الثورة الصناعية وموجة ولادة القومية (التي أنجبت الرومانسية)، والمرة الثانية مع ولادة الاستعمار ثم الإمبريالية (التي أنجبت الماركسية)، ثم ثقافة الخراب ما بعد الحرب (التي أنجبت الوجودية العدمية)، ثم مع ثقافة هوليوود (ثقافة عبادة المال والسلطة والجنس)، وأخيراً بعد العولمة حيث ولدت ثقافة تمجيد التفاهة وتسليع المرأة.
لا شك أن المترجمين والمثقفين العرب مارسوا نوعاً من الخداع غير المقصود تجاه جمهور القراء العرب، فقد نقلوا إلى القراء العرب افتتانهم بالغرب، وزرع مثقفوهم في أذهاننا أن الغرب هو النموذج الوحيد للتقدم الذي يمكن لشعوب الشرق أن تحاكيه! فاليابان مثلاً أمة شرقية مثلنا، ولكنها سارت على نهج الغرب وسبقته. والحقيقة أن اليابانيين، على الرغم من الفارق الكبير بيننا نحن العرب المسلمين وبينهم، لم يفتنوا يوماً بالثقافة الغربية، بل إنهم ما زالوا حريصين على ثقافتهم الأصيلة، وقد ساروا على خطى الغرب علمياً وتكنولوجياً، آخذين منه ما يحتاجون إليه لتطوير حياتهم المادية اليومية، ولم يتخلوا عن ثقافتهم وتراثهم. أما مفكرونا ومثقفونا العرب الذين أبهرتهم سحر باريس ولندن وبرلين ونيويورك، فقد أرادوا منا أن نكون نسخة طبق الأصل من سكان تلك المدن، نافين عن أذهانهم الفارق الموضوعي بين الثقافتين والشعبين والتاريخين والواقعين.
لقد بلغ التقليد الغربي مستوى فيشر في الخمسينيات في لبنان، وفي سوريا في الستينيات والسبعينيات، وقبل ذلك انغمست النخب الاجتماعية المصرية في العشرينيات والثلاثينيات في تقليد أوروبا. ولعل الكثير من المؤرخين العرب يعتبرون تلك العقود عقود ازدهار ونهضة، من ولادة الأحزاب القومية إلى الأدب الذي شهد ولادة أجناس أدبية شبيهة بالأدب الأوروبي، وخاصة في الشعر العربي الجديد من رومانسي ورمزي وسريالي. فظهرت فقاعة القصيدة الإلكترونية واختفت سريعاً، وفي الرسم وجدنا السريالية والانطباعية وغيرها. ولكن فترة الازدهار السياسي والفني لم تدم طويلاً، حيث جاءت الدكتاتوريات لتطيح ببعض الحريات التي استنشقها السوريون والمصريون في أواخر فترة الاستعمار وما بعدها.
وبالعودة إلى ثقافة الأرض وما تعنيه من حضور طاغٍ في وجودنا ووعينا، فليس من المعقول أن يكون وجودنا هنا ـ في سورية مثلاً ـ قائماً على ثقافة هناك ـ في أوروبا مثلاً ـ ثقافة لم تولد من هذا الوجود هنا، وجودنا ذاته، بكل مكوناته ومكوناته، وإلا فإن انفصاماً يشبه المرض أو الإعاقة سيلازمنا لعقود من الزمن، فيشل وعينا ويصيبنا بانفصام وجودي لا شفاء منه.
هل من المعقول أننا إذا لم ننجح في استنساخ الثقافة الأوروبية في بلداننا، سنصاب بالإحباط واليأس، مما يدفعنا إلى الصفع واللعن والانتحار، أو نضطر إلى الهجرة كأفراد ونخب إلى أوروبا لنعيش ما حلمنا به دائماً؟
ما هو البؤس الذي كان يعيشه هؤلاء المترجمون والمثقفون والكتاب العرب الذين تم غسل أدمغتهم، عندما أرادوا أن تصبح أمة بأكملها نسخة من أمة أخرى؟
هل يعقل أن نربط التقدم والتطور والحداثة بالغرب وحده؟ وإلا فكيف يستطيع الغرب نفسه أن يتقدم ويتطور ويحدث وهو يعيش قبل خمسة قرون في عصر الظلام والتخلف والهمجية؟
اليوم يعود الغرب نفسه إلى الأرض من باب ما هو صحي، الغذاء والماء والتعليم. يعود إلى ثقافة الأرض والمنتجات “الحيوية”، عودة خجولة ضمن ثقافة الاستهلاك اللاواعي. عودة في إطار توجه يعد من أجمل ما أنتجه الغرب في القرن الماضي، أعني الحركة الخضراء أو الجماعات البيئية. فبعد أن بلغ التلوث ذروته بسبب الرغبة المتزايدة في تصنيع كل شيء وتوسع عبادة العمل والربح، بدأ يؤثر ليس فقط على بيئة أوروبا، بل وعلى الغلاف الجوي للأرض، وبات العالم مهدداً بالدمار البيئي عندما وصل إلى “نقطة اللاعودة” خلال ثلاثين عاماً. فلا عجب أن نشهد خلال عقد من الزمان عودة إلى ثقافة الأرض والزراعة والرعي في أوروبا نفسها، بعد أن بلغت ثقافة العولمة ورأس المال المالي وتشييء الإنسان وتسليعه ذروتها.
ولنعد إلى حال العربي الذي يبهره الغرب وينشغل به ويقتدي به ويحلم ببناء مجتمع عربي على غراره. باختصار، لم يرتق الغرب، مثله كمثل كل “أمة” وحضارة، إلا بالعمل على معرفة نفسه، ومعرفة احتياجاته، ومعرفة كيفية تحويل نفسه إلى عالم أقوى وبالتالي أكثر إنسانية، يأخذ من الآخرين ما يحتاج إليه فقط، لينفذ برنامجه وفق خطة مبتكرة على مقاسه. ولا ننسى الإخلاص والإتقان، فهما سر آخر من أسرار نهضة الجماعات والأمم.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر