تقارير

من ظلال الألم إلى فجر الحرية.. حكايات دمشق

تدخل البلاد محملاً بثقل ذكريات سنين الغربة، وكأن حياتك بأكملها تُعرض أمام عينيك في شريطٍ لا ينتهي. تتوقف عند آخر الأيام التي قضيتها في سوريا، آخر اللحظات التي نقشها الوداع في ذاكرتك. تتذكر وجوه الأحبة، صوت خطواتك على طريق السفر، وأصدقاء تلك المرحلة الذين تقاسمت معهم الحلم والحزن. تسأل نفسك بصوت خافت: من بقي؟ من هاجر؟ من لا يزال يصارع الحياة، ومن غادرها بصمت؟

وأنت تقترب أكثر من دمشق، المدينة التي حملت عبق ماضيك ووجع حاضرها، تتجلى أمامك مشاهد لا تُنسى: دبابات مهجورة على أطراف الطريق، تركها الجنود يوم السقوط وهربوا. حواجز خاوية، ومعدات جيش النظام المنهار متناثرة كأنها شاهدة على فصولٍ خسرها الزمن. يتسلل إليك شعور غريب، مزيج من الحنين والحزن والرهبة، وكأن الأرض تروي لك قصة فقد ووجع لا تزال تفاصيلها حية.

 

هنا دمشق 

دخلنا دمشق… نعم، إنها دمشق. تلك المدينة التي لم نعد نجرؤ حتى على رؤيتها في أحلامنا، ها نحن الآن نلامس أرضها. مدينة الياسمين، كما يحب أبناؤها أن يسموها، تستقبلنا بوجهها الذي حمل أثقال الزمن. هرمت دمشق، وكأنها وجه امرأة عجوز حفرت الأيام تجاعيدها فيه، لكنها تبقى جميلة في عيوننا، ملاذًا دافئًا ينبض بالأمان والطيبة.

شاخت دمشق، نعم، لكنك تشعر وكأن الزمن نفسه قد نسيها، تخطّاها في سباق التقدم والتطور. قديمة هي بكل ما فيها: مبانيها التي صمدت في وجه العواصف، شوارعها التي شهدت ملايين القصص، سياراتها وحافلاتها التي تبدو وكأنها من زمن آخر، فنادقها التي ما زالت تقص حكايات الماضي. حتى أبسط تفاصيلها تنتمي إلى زمن بعيد.

ورغم كل هذا، نحن هنا، في دمشق. نراها بعين الحنين، نحبها كما هي، ونشعر بأننا عدنا إلى جزء من أنفسنا كان غائبًا.

أصدقاء الزمن العتيق 

التقينا أصدقاء الماضي، تلك الوجوه التي لم تغب عن الذاكرة رغم غبار السنين. كانت دموع الفرح أول ما عبّر عن اللقاء، دموع تحمل في طياتها حنينًا لكل ما فقدناه وفرحًا بما استطعنا استعادته. وما إن تجف تلك الدموع حتى تنطلق الضحكات، تنساب بخفة مع الذكريات والمواقف التي لا تزال حيّة في قلوبنا.

أينما تسير، تستعيد شريط حياتك: تضحك حينًا على ذكرى عفوية، وتحزن حينًا آخر على ما لم يعد. كل زاوية تحمل قصة، كل طريق يحمل أثرًا. تشعر أن الزمن هنا يركض بسرعة غريبة، كأن الأيام تمضي بدقائق لا تعرف الساعات، وكأن دمشق تهمس لك بأن اللحظات الجميلة تظل دومًا قصيرة.

أصوات هذه المدينة 

تُزعجك أصوات المولدات الكهربائية التي لا تهدأ، ورائحة البنزين والمازوت التي تمتزج مع الأكسجين، وكأن الهواء نفسه أصبح ثقيلاً على صدرك. في البداية تشعر بالاختناق، ثم شيئًا فشيئًا تعتاد هذه الأصوات وتلك الروائح، وكأن المدينة تفرض إيقاعها عليك.

الشام كاترين

التلوث هنا ليس مجرد تفاصيل عابرة؛ إنه لوحة سوداء تغطي كل شيء. المباني ارتدت لون السواد، والشوارع تروي حكايات إهمالها. جبل قاسيون، الذي كان يومًا أخضرًا شامخًا، يبدو الآن كظل خاوٍ بلا أشجاره، والمدينة نفسها تبدو قاحلة من كل ما ينبض بالحياة: أشجار قليلة، أضواء غائبة، وكأنها تغرق في ظلام دائم.

ليلاً ونهارًا، السواد هو سيد المكان. لا كهرباء تضفي حياة على هذا الظلام، والماء شحيح بالكاد يكفي، فلا تحلم بأكثر. حتى الإنترنت هنا يبدو وكأنه انعكاس للحال، بطيء ومحدود، كأنه يحذو حذو كل شيء في هذه المدينة، التي تعيش على حافة الزمن.

قديمة، حتى في أغانيها…

أكثر ما شدّني وأنا أجوب شوارعها هو ذلك الصوت العائد من التسعينات، أغاني الماضي التي لا تزال حاضرة في كل زاوية. تدخل إلى المطاعم فتأخذك ألحان “السود عيونه” أو “عيونو دار” إلى زمن المراهقة، ذلك الزمن الذي تحمله في ذاكرتك بتفاصيله المضحكة والمبهمة. وكأن المدينة تعيدك إلى تلك الأيام دون أن تطلب.

الشام كاترين

أما التكاسي، فتبدو وكأنها متحف متنقل، محافظة على أغانٍ تحمل روح الدبكة القديمة، وزينتها الحمراء التي لم تتغير. هناك تجد الجمل التي تحمل طرافة وبساطة الزمن الماضي، كـ*“لا تلحقني مخطوبة”* و*“محروسة من العين”*. كل شيء هنا يتحدث بلسان قديم، حتى الأغاني، وكأن دمشق تصر أن تبقى عالقة في زمن مضى، ترفض أن تترك ذكرياتها خلفها.

المعتقلون والمغيبون قسرا

لا يمكنك، ولو للحظة، أن تتجاهل ظل جرائم النظام الثقيلة التي خيمت على سوريا. هذا البلد الذي بدا وكأنه في العناية المشددة، على حافة الموت، يخنقه التراجع في كل الأصعدة. ومع ذلك، تجد صور المغيبين قسرًا والمعتقلين معلقة في ساحات وشوارع المدينة، تذكيرًا دائمًا بمن فقدنا. ورغم خلو السجون والمعتقلات من كثير من أرواحها، يبقى الأمل قيدًا يلتف حول قلوب الأهالي، ينتظرون خبراً، أي خبر، عن أحبتهم.

رافقت صديقي إلى سجن المزة العسكري، حيث كان معتقلاً قبل سنوات. ورغم ما نسمعه يوميًا من قصص عن هذه السجون، ورغم الصور واللقاءات مع الناجين الذين رووا لنا أهوالهم، شعرت بخوف لم أستطع قمعه عند دخولي. الممرات ضيقة، الزنازين متراصة بأبواب سوداء، والسقف عالٍ لكنه يخنق الروح. الروائح الكريهة التي ملأت المكان، رغم خلوه منذ شهر، بقيت شاهدة على ما مرّ فيه من معاناة.

عند الدخول، ترتجف. لا يمكنك أن تتخيل كيف يمكن لإنسان أن يعيش في هذه الزنازين. بقايا أغراض معتقلين سابقين متناثرة هنا وهناك، ذكريات محفورة على الجدران، وكلمات مكررة عن “الأم”، تلك الحاجة الملحة للحنان وسط هذا الجحيم. في كل زنزانة، تجد رزنامة مرسومة، محاولة بائسة لتتبع الأيام، لاحتضان الزمن الذي بات بلا معنى. ما لفت نظري هو غياب الحشرات؛ ربما لأن أي كائن حي لا يمكنه احتمال العيش في مكان كهذا.

كان هذا اليوم قاسيًا، لكنه ذكرى لا يمكننا نسيانها. لن ننسى ما عاناه المعتقلون، ولا ما دفعه هذا الشعب من دماء وأعمار ليتحرر من أغلال الظلم. لقد كان طريق الحرية مكللًا بالجراح، لكنه أثبت أن الروح الإنسانية قادرة على المقاومة، حتى في أحلك الظروف.

خرجنا من السجن وكأننا نهرب من كابوس ثقيل، من ماضٍ أليم لم نعد نريد التوقف عنده. أخذنا قرارًا عفويًا بالمشي في شوارع دمشق التي نحب، تلك الشوارع التي تحمل بين طياتها ذكرياتنا وأحلامنا.

رأينا وجوهًا مشرقة بين الشباب، محملة بالأمل، بنور يحكي عن إصرارهم على الحياة. كان هناك دافع كبير للعمل، وكأنهم يقولون للعالم: نحن هنا، نبني من جديد. فرق تطوعية منتشرة في كل زاوية، تعمل بلا توقف لتحسين الحياة، لإعادة روح هذه المدينة التي كادت تخنقها الأحزان.

قابلنا الكثير من المغتربين العائدين، وجوههم مفعمة بتفاؤل يشدك إليه. حديثهم عن الغد كان مختلفًا، مليئًا بالتخطيط والرغبة في العودة والاستقرار، وكأنهم يعيدون وصل ما انقطع، يحلمون ببلاد تحتضن الجميع.

أما مساءات دمشق، فهي حكاية أخرى. أغاني الثورة تملأ الأجواء، هتافات الشباب والشابات تنبض في الشوارع، تحمل كلماتها شعورًا لا يوصف. كأننا جميعًا لا نصدق أننا عبرنا الجسر، أن الشعب السوري قد أسقط النظام، وأننا أخيرًا نعيش كـ”سوريين أحرار”.

كانت دمشق، رغم كل شيء، تنبض بروح جديدة. روح تقول إن الماضي لم ينتهِ، لكنه لن يثنينا عن بناء مستقبل نريده، مستقبل صنعناه بأيدينا وبدفع أحلامنا التي لم تمت.

للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى