ذكريات العرب الأوائل تنبض في نيويورك

كتبت/ مي عبد المجيد
نشرت صحيفة The City الأميركية تقريرًا موسعًا، سلطت فيه الضوء على حي “سوريا الصغرى” الذي كان مركزًا للجالية العربية في نيويورك خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. استعرض التقرير تاريخ هذا الحي الذي ازدهر بين عامي 1880 و1940، حيث استقر فيه مهاجرون عرب، معظمهم من بلاد الشام، وأسّسوا مجتمعًا نابضًا بالحياة في منطقة باتري بارك السفلى.
فيما يلي الترجمة الكاملة للتقرير:
كان أنطوني جانسين فان سالي أول مسلم يصل إلى مانهاتن ويستقر فيها في عام 1633، وبعد مرور ست سنوات على ذلك، طُرد هذا الهولندي ذو الأصول التي تعود لشمالي أفريقيا لأنه كان مثيراً للشغب، بعد أن أصبح أحد ملاك الأراضي ضمن ما كان يعرف وقتئذ بنيو أمستردام، فنُفي إلى مناطق نائية في بروكلين، وذلك بعد أن ارتكب أعمالاً مشينة غريبة، كان من بينها دفع ديونه بواسطة تيس ميت.
كان فان سالي ابناً لقرصان هولندي غيّر دينه بعد أن قبض عليه قراصنة بارباري ثم انضم إلى صفوفهم، ومن نسلهم انحدرت عائلات ملكية سكنت مدينة نيويورك مثل عائلة فانديربيلت وويتني. وقصة هذا الرجل ليست سوى قصة من بين قصص كثيرة شيقة يسمعها عشاق التاريخ خلال جولة سياحية يقودها المرشد أسعد دانديا، 32 عاماً، وذلك في حي المقاطعة المالية التي كانت تعرف بسوريا الصغرى خلال فترة سابقة.
ودانديا هذا مؤرخ تعود أصوله لجنوبي بروكلين، وقد كسب دعوى كان قد رفعها على شرطة نيويورك في عام 2013، عندما كان طالباً بكلية كينغزبورو كوميونيتي، وذلك عندما اتهم ذلك الجهاز بمراقبته ومراقبة كل المسلمين الذين تنحدر أصولهم من نيويورك، والآن، أصبح هذا الشاب يترأس شركة تقدم جولات سياحية سيراً على الأقدام وتحمل اسم: حكايات نيويورك.
ودانديا مؤيد بارز عبر الإنترنت لزهران معضماني، وهو شاب عمره 33 سنة، وعضو في المجلس الاشتراكي يسعى للفوز بالانتخابات وذلك ليصبح أول عمدة مسلم لهذه المدينة.
خلال يوم الثلاثاء الماضي، قدم دانديا خدمة الإرشاد السياحي لأكثر من عشرة طلاب من كليات كولومبيا وبارنارد وذلك عبر أخاديد القسم السفلي من مانهاتن.
“سوريا الصغرى” ما هو إلا لقب أطلق على الحي السكني الواقع في باتاري بليس ما بين شارع واشنطن وشارع غرينويتش، والذي ازدهر خلال الفترة ما بين عامي 1880-1940، وذلك إلى أن قام روبرت موسى “سمسار السلطة” بمدينة نيويورك بالاستعانة بحق الاستملاك لهدم بيوت المهاجرين ومحالهم التجارية بهدف فتح الطريق أمام إنشاء نفق Hugh L. Carey.
ولعل قصة فان سالي بدأت من هنا، إذ يحكي دانديا للسياح المتجولين معه: “على الرغم من أنه كان مسلماً، فإنه لم يكن ورعاً، بل كان صاحب مشكلات كثيرة، ولهذا سأخرج هاتفي لأعدد جرائمه عليكم من خلاله”.
شملت تلك القائمة سرقة الحطب من عند جيرانه، ودفع الأموال التي يدين بها بواسطة تيس ميت، والسماح لكلبه بقتل خنزير جاره، وفان سالي الذي كان يعرف بين الناس باسم “أنطوني التركي” على الرغم من أنه لم يكن تركياً، وجه فوهة بندقيته تجاه أحد مشرفي شركة الهند الغربية، والتي كانت تقبض على العبيد الأفارقة وتبيعهم، كما قبض في إحدى المرات على جابي الديون وهدده بإهراق دمه بعد أن طالبه بدفع الديون المستحقة.
أما زوجة فان سالي، واسمها غريتجي رينيرز، فلم تسمح له بالتفوق عليها، ولذلك اتهمت زوجة الزعيم الروحي في المستعمرة بأنها عاهرة خائنة لزوجها، على الرغم من أنها هي نفسها اشتهرت بممارسة مهنة الدعارة.
يحدث دانديا السياح فيقول: “لا يمكنك أن تتهم أحداً بتلك التهمة في أي وقت، ولكن في مستعمرة كانت موجودة في القرن السابع عشر، يسكنها 1500 شخصاً، فإن القواعد الاجتماعية كانت مختلفة جداً عما هي عليه اليوم، أي أن العهر كان يعتبر من كبائر الجرائم”.
خضع فان سالي وزوجه للمحاكمة، فدانته المحكمة لكنه رفض التراجع عن أي اتهام أو دفع أي دين من ديونه، ولهذا “نفوه إلى مكان بعيد يعرف باسم بروكلين”، وهكذا جعل دانديا الطلاب الذين رافقوه يقهقون بصوت عال.
وعندما عاش فان سالي في كوني آيلاند، تملك 200 فدان من الأراضي الزراعية ضمن ما يعرف اليوم ببروكلين، ثم عاد إلى مدينة نيويورك بعد مدة طويلة، وبعد أن غير البريطانيون اسمها إثر سيطرتهم عليها، وهناك باع بيته في ستون ستريت بالقرب من المكان الذي كان يعيش فيه قبل نفيه.
في مكالمة هاتفية أجريت مع دانديا، وهو ابن لمهاجرين باكستانيين يعمل مدرساً بمتحف مدينة نيويورك وأستاذاً مساعداً يدرس تاريخ مدينة نيويورك بكلية غوتمان كوميونيتي في ميدتاون مانهاتن، قال: “باعتقادي ما يميز أنطوني وزهران هو أنهما متعددا الثقافات وأتيا من بيئة منفتحة على تعدد الثقافات، وهذا ما جعلهما من سكان نيويورك المثاليين بطريقة ما”.
فمعضماني ابن المخرج مير نعير الذي أخرج أفلاماً منها فيلم Mississippi Masala الذي صدر في عام 1991 وهو من بطولة دينزيل واشنطن، ويعالج هذا الفيلم قصة حب بين أميركي أسود وأميركية من أصول هندية، وهذا الفيلم من تأليف محمود معضماني وهو كاتب أوغندي ولد في الهند، وأستاذ بعلم الاجتماع والعلوم السياسية بجامعة كولومبيا.
إن نشاط معضماني وعمله في مجال البحث العلمي جعله يرى العالم كله، ما يعني بأن زهران تنقل كثيراً هو الآخر خلال نشأته، وذلك بعد مرور قرون على تحول ابن القرصان فان سالي إلى أول مسلم يمتلك عقاراً في نيويورك.
أسوار وتماثيل
يبدأ دانديا جولته السياحية في سوريا الصغرى بالقرب من محطة وايتهول للعبارات التي تأخذك لجزيرة ستيتين، فيعرض على الطلاب خارطة لنيو أمستردام التي أسسها الهولنديون بعد أن سيطروا على المنطقة التي انتزعوها من قبائل لينابي في عام 1624.
صورة من الأرشيف لـ”سوريا الصغرى” في عام 1940 قبل أن تتعرض للهدم
ثم يخاطب الطلاب فيقول: “أنشؤوا هذه المستعمرة التي ضمت نحو 1500 شخصاً، وحصنوها بسور عال، إذ استعانوا بهذا السور لصد السكان الأصليين ولمنعهم من استعادة الأرض، وكذلك لمنع وصول منافسيهم الأوروبيين، وعلى رأسهم البريطانيون” ويشير إلى أحد المواقع على الخريطة التي تمثل اليوم قطاع وول ستريت، ثم يتابع: “إن هذا الجدار قد انقض، وهم يطلقون عليه اليوم وول ستريت”.
بعد ذلك يأخذ دانديا السياح إلى عدد من أبرز المعالم ومنها مبنى Fraunces Tauvern الشهير في برود ستريت، وبيرل ستريت حيث خطط واشنطن للثورة الأميركية، وبولينغ غرين، التي تعتبر الباحة الخلفية لسوريا الصغرى، بعد ذلك يحدثهم عن النسخة الأولى لتمثال الحرية الذي كان بالأصل هدية مخصصة للإمبراطورية العثمانية، حتى تنصبه عند قناة السويس بحيث يشع بنوره على الشرق كله.
وخلال فترة توافد موجات المهاجرين القادمين من أيرلندا وألمانيا على مدينة نيويورك خلال أربعينيات القرن العشرين، لم تصل أول موجة من المهاجرين العرب حتى ثمانينيات القرن نفسه، إذ مع تراجع صناعة الحرير، والتحديات التي شهدتها الزراعة، وظهور توتر عرقي وديني مع الحكام العثمانيين، وعمليات التجنيد التي مارستها المدارس التبشيرية الأميركية، كل ذلك أسهم في ظهور موجة هجرة عربية بحسب ما يسرده دانديا.
معظم المهاجرين العرب كانوا مسيحيين غادروا بلاد الشام ووصلوا إلى هذه المدينة، فافتتحوا متاجر فيها وعاشوا في أحياء أقيمت على جانبي شارع واشنطن، إلى جانب المهاجرين الأيرلنديين والألمان والقادمين من أوروبا الشرقية.
دانديا وهو يرشد الطلاب إلى مكان “سوريا الصغرى” قبل هدمها
افتتح التجار السوريون مشاريعهم على الجانب الغربي من شارع واشنطن، وهو الشارع الرئيسي في سوريا الصغرى، بما أنه قريب من الواجهة البحرية الجنوبية التي تتم من خلالها عمليات التبادل التجاري.
يخبرنا دانديا بأن السوريين هنا كانوا: “تجاراً وباعة متجولين، وأشخاصاً انخرطوا في التجارة والتبادلات التجارية” ويؤكد بشكل كبير على المنسوجات التي تشمل الألبسة الداخلية والحمالات وزي الكيمونو التقليدي الياباني.
وقد انتهت الأمور بأحد التجار السوريين، واسمه إبراهيم سعادة، إلى تأسيس سلسلة متاجر Sahadi’s في عام 1895، والتي أصبحت أشهر سلسلة متاجر متخصصة بالبقالة والمأكولات الشرق أوسطية كما أضحت من المعالم الأساسية لشارع أتلانتيك ببروكلين، بعد أن قامت تلك المدينة على أنقاض سوريا الصغرى.
في حين أسس سوري آخر اسمه نجيب عربيلي صحيفة نجمة أميركا في عام 1892، وهي أول صحيفة تكتب باللغة العربية في نيويورك، وقد أقامها في بيرل ستريت بالقرب من مبنى Fraunces Tavern، تعود أصول عربيلي إلى دمشق، وقد كان هو وأسرته من أوائل من استوطنوا سوريا الصغرى، حيث وصل إليها بعد أن انضم لمدرسة تبشيرية في نوكسفيل بولاية تينيسي الأميركية.
أقيمت مصانع في سوريا الصغرى لتستقطب من لا يحبون التجارة وإدارة الأعمال، لكنها لم تسمح للسوريين بالعمل فيها، إذ يخبرنا دانديا: “كان مصنع بابيت للصابون مصنعاً أيرلندياً متخصصاً بصناعة الصابون لكنه لم يكن يوظف أي سوري”.
عاش سكان تلك المنطقة، وأغلبهم تجار، في الجانب الشرقي من شارع واشنطن في مستوطنات لم يكن فيها تدفئة، وكانت نساؤهم ترتدي طبقات متعددة من الثياب “وذلك ليس لأسباب دينية بالضرورة، ولكن لأن البرد كان قارصاً، ولم تكن لديهم تدفئة، ولهذا كانوا يرتدون طبقات كثيرة من الثياب، ولم يكن الأمر محبباً بالنسبة لهم، لأن معظمهم كانوا يعانون بسبب ذلك”.
صورة أرشيفية لصحيفة نقلت خبراً عن “سوريا الصغرى” والتي كانت مركزاً حيوياً يقع على الطرف الجنوبي من مانهاتن
ولكن لم يتبق في سوريا الصغرى أي معاناة أو نجاح بعد أن هدمت في عام 1942 من أجل فتح طريق لنفق Hugh L. Carey، وهنا يخبر دانديا الطلاب عند وقوفهم قبالة النفق: “بوسعكم القول بأن أربعينيات القرن التاسع عشر شهدت نهاية سوريا الصغرى بوصفها حياً سكنياً”، ثم يخبرهم كيف تمسك بعض السكان بالحي فوصلهم إنذار يطالبهم بإخلاء بيوتهم خلال 24 ساعة.
وهكذا انتقل معظم سكان الحي إلى شارع أتلانتيك الذي مايزال مركزاً نشطاً للتجارة العربية.
خلال هذه الجولة، يقول دانديا للطلاب: “فكروا الآن بالأحياء العربية الكبيرة في مدينة نيويورك، إن أول منطقتين خطرتا على بالي هما أستوريا وباي ريدج، أليس كذلك؟ وما القطارات التي تأخذكم إلى هناك؟ إنه الخط R الذي نقل الجالية إلى هناك حيث توجد اليوم”.
ويخبر دانديا الطلاب بوجود سكان عرب استقلوا معهم العبارة نفسها وذلك حتى يصلوا إلى أحيائهم الجديدة.
يوضح دانديا في جولاته السياحية كيف يلهم الماضي الحاضر بطرق لا يمكن للمرء أن ينساها، إذ يخبرنا دانديا في إحدى جولاته أنه في عام 1776، دعا جورج واشنطن الذي كان جنرالاً وقتئذ العساكر الأميركيين وسكان مدينة نيويورك لإسقاط تمثال الملك جورج الإنكليزي الموجود في بولينغ غرين.
ويقارن دانديا تلك الحادثة بالجهود التي تبذل منذ مدة لإزالة جميع النصب التذكارية الكونفيدرالية المنتشرة في مختلف أنحاء البلد، ويقول: “إن إزالة التماثيل عمل أميركي بامتياز، فقد قرر واشنطن بأن الملك جورج لا يمثل القيم التي يتبناها هو”، ويتابع: “عندما نقرر بأن التناقضات التي تأسست عليها أميركا لا تمثل مبادئنا.. فيمكننا عندئذ أن نزيل تماثيل الأشخاص الذين لا يمثلونها”.
المصدر: The City
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر