مقالات

رامي الشاعر يكتب: مفهوم السيادة والأمن القومي

 

صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ أيام بأن روسيا، بعكس أوروبا الغربية، لا تستطيع ولن تقبل بالعيش بلا سيادة.
لا أعتقد أن أحدا يختلف على أن ثمة هوة تتسع بين موقف الغرب على جانبي الأطلسي، فأوروبا بقيادة فون دير لاين، روته، زيلينسكي، ستارمر، ماكرون، ميرتس، ميلوني ولا أذكر اسم رئيس فنلندا الذي صاحبهم في تلك الرحلة (مساحة فنلندا 338 ألف كيلومتر مربع منها 69% غابات، ويقطنها 5.6 ملايين مواطن، ويربطها بروسيا حدود 1300 كيلومتر)، والذي انبرى يتحدث عن “تاريخ بلاده” في “الصراع مع روسيا”، وربما يقصد بذلك انضمام البعض للقتال إلى جانب النازي. أقول إن أوروبا هذه، والتي تسعى إلى استمرار الحرب حتى آخر جندي أوكراني، أصبحت تختلف في موقفها عن موقف الرئيس دونالد ترامب، الذي ناقش مع الرئيس بوتين في ألاسكا “خطوات عملية وقضايا أمنية خطيرة”، بكلمات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقابلته مع شبكة “إن بي سي”.
وقضية الضمانات الأمنية لأوكرانيا، وقد تطرق إليها الرئيسان في قمة ألاسكا، تحاول أوروبا وربيبتها أوكرانيا الآن تحريفه، ونزعه من سياقه، ومحاولة الالتفاف حول الألفاظ والمصطلحات لنشر قوات من “الناتو” على الأراضي الأوكرانية، وهو ما رفضته ولا زالت ترفضه روسيا جملة وتفصيلا.
إن أهداف العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا لا تتعلق فقط بأوكرانيا، وإنما تتعلق بالأمن القومي الروسي بالدرجة الأولى، وربما تكون نقطة الالتقاء بين الرئيسين بوتين وترامب هي أن كلاهما يسعى بصدق إلى الدفاع عن مصالح بلاده.
فموسكو تحترم ترامب لدفاعه عن مصالح الولايات المتحدة الأمريكية مهما كانت التضحيات، وفي المقابل يحترم ترامب بوتين لدفاعه أيضا عن مصالح روسيا مهما كانت التضحيات. وأنا على يقين أن روسيا ستقضي على أي تهديدات أمنية قادمة من الغرب والجنوب، وهو السبب الذي قامت من أجله العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا.
لكن رد فعل الأطراف الأوروبية والهستيريا التي أصابتها بعد لقاء ألاسكا، وهرولتهم إلى واشنطن بصحبة زيلينسكي، وإجراءاتهم اللاحقة تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنهم بالفعل لا يريدون السلام. وبينما أعلنت روسيا بوضوح وشفافية هدفها من عمليتها العسكرية، وعدم سعيها بأي شكل من الأشكال إلى اكتساب أي أراض جديدة، إلا أن الأوروبيين لا زالوا يلوكون تصريحات من عينة أن روسيا “ستهاجم أوروبا”، وأن لروسيا “طموحات إمبراطورية”، وأن بوتين يسعى لاستعادة “مجد الإمبراطورية الروسية قبل الثورة البلشفية”، وهي تصريحات عبثية لا أساس لها ولا منطق.
إلا أن الغباء المصطنع والخبيث لبعض زعماء الدول الغربية في أوروبا، وأعضاء “الناتو”، وهم يشكلون نخبة منفصلة عن شعوبهم، يجعلهم يواصلون محاولات الالتفاف على مفاهيم السيادة والامن القومي للبلاد، وهي مفاهيم راسخة ومثبتة بشكل واضح في ميثاق الأمم المتحدة، بينما تعاني أوروبا الحديثة، وكما رأينا في لقاء واشنطن منذ أسبوع، من انعدام واضح للسيادة كما صرح الرئيس بوتين.
ما لمسته في لقاء واشنطن كذلك، هو إدراك الرئيس ترامب لمسؤولية قيادته لدولة نووية عظمى وتعاملها مع دولة نووية عظمى ثانية، واحترامه للمخاوف الروسية المشروعة والتي تخص الأمن القومي للبلاد، وحتمية الدفاع عنه بكل غال ونفيس. وبعدما اتضح للعالم أجمع، أن روسيا لن تسمح بأي تهديدات لحدودها أو لاستقرارها أو لأمنها القومي، بما يعني ضمن أمور أخرى تغيير العقيدة النووية الروسية، أصبح من الأهمية بمكان الاستماع إلى وجهة النظر الروسية وأخذها بعين الاعتبار بكل جدية ومسؤولية، وهو ما أعتقد أن الرئيس ترامب قد بدأ في اتخاذ إجراءات بشأنه.
أما محاولات التخريب والفقاعات الإعلامية والحرب الهجينة وتشويه وتزييف الحقائق بما في ذلك تاريخ الحرب العالمية الثانية التي خاضها الاتحاد السوفيتي متحالفا مع الولايات المتحدة الأمريكية، فإنها تتهاوى أمام الحقائق التي يفرضها الجيش الروسي على الأرض.
لقد أدركت القيادة السياسية في الولايات المتحدة، حتى على مستوى وزير الخارجية ماركو روبيو، وهو من الصقور التي لا تميل كثيرا إلى روسيا، أن هزيمة روسيا مستحيلة لأن ذلك يعني إلحاق الضرر بالصين والهند، لا سيما في ظل امتداد وانتشار مجموعة “بريكس” بوتيرة متسارعة أكبر بكثير من كل التوقعات، وهو ما يؤكد بحث الأغلبية العالمية عن صيغ جديدة (وفي ذلك المقام أيضا “آسيان” و”شنغهاي للتعاون”) تتجنب الهيمنة العالمية، وسيطرة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي.
كذلك أظن فيما أظن أن الرئيس ترامب قد استوعب صورة الوضع التاريخي للأراضي الروسية في أوكرانيا، وحق المواطنين المقيمين على هذه الأراضي في ممارسة ثقافتهم وعاداتهم وقيمهم الأصيلة دون قمع أو تمييز أو عنصرية من جانب المركز في كييف، الذي قام بعمليتين عسكريتين تحت مسمى “مكافحة الإرهاب”، في محاولة لحل قضية دونباس بالقوة، وهو ما أسفر خلال 8 سنوات في الفترة من 2014-2022) عن مقتل 12 ألف مدني في هذه المنطقة كلهم من الروس الأوكرانيين. وقد اندلعت العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا تحديدا قبيل شروع الجيش الأوكراني في تنفيذ عمليته العسكرية الثالثة ضد منطقة دونباس. لقد اتضح للرئيس ترامب أيضا موقف سكان شبه جزيرة القرم ودونباس في الاستفتاءات الشرعية التي أجريت في هذه المناطق، والتي أثبتت انتماء سكان هذه المناطق إلى الثقافة الروسية، ورغبتهم الحرة في الانضمام إلى روسيا، بعدما ذاقوا المهانة والاستبعاد وأن يكونوا مواطنين من الدرجة الثانية في أوطانهم وأراضيهم التاريخية.
أعيد التذكير بكلمات الرئيس بوتين في مؤتمره الصحفي بألاسكا، بأن ما يحدث هو “مأساة وألم كبير”، لأن الشعب الأوكراني هو شعب شقيق، مهما بدا ذلك غريبا في ظل الظروف الراهنة، وتابع بعدها: “إن جذورنا واحدة، ونحن مهتمون بوضع حد لما يحدث”.
تلك القضايا جميعا أصبحت ورقة شديدة الأهمية يستخدمها الرئيس ترامب بإقناع القادة الأوروبيين وقيادة النظام الأوكراني للتوصل إلى اتفاق يراعي بالدرجة الأولى السيادة الروسية، ومتطلبات حماية الأمن القومي الروسي، وأمن الحلفاء، والذي لا يمكن بأي شكل من الأشكال التلاعب بشأنه.
هذا هو البعد الاستراتيجي لمفهوم السيادة بالنسبة لروسيا وحلفائها، وهو ما تعاني أوروبا من نقصه وربما عدم فهمه، حيث تتحكم نخب متآمرة حتى على مصلحة شعوبها، وتخدم اللوبي الذي يريد عرقلة قطار التعددية القطبية الذي انطلق بالفعل، ويسير بإصرار وعزيمة وسرعة نحو أجواء دولية جديدة تحمل العدل والمساواة بين الدول ذات السيادة، لتعاون وازدهار الشعوب دون إملاءات أو ضغوط أو عقوبات أو حصار.
وتجاوب الزعماء العرب مع دعوة بوتين للقاء في موسكو في أول قمة عربية، أكتوبر المقبل، دليل على أن كل الدول العربية ترفض استمرار سياسة الهيمنة على العالم وانتقاص سيادة الدول، واختيار موسكو ينطلق من مشاركتها الفاعلة في عملية انتقال العالم إلى التعددية القطبية، وهو ما يسير بالتوازي مع أهداف العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا، ووضع حد لتوسع “الناتو” نحو الحدود الروسية، ووضع حد لأهداف “الناتو” إضعاف روسيا وعرقلة إنهاء الهيمنة الأحادية والتحكم في مقادير ومصائر العالم.
وزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للصين مطلع الشهر المقبل احتفالا بالذكرى الثمانين لانتصار الصين في الحرب العالمية الثانية تحمل هي الأخرى دلائل تصب في نفس الاتجاه، أهمها القضاء على أوهام الغرب بعودة الأوضاع الدولية لما كانت عليه قبل العملية العسكرية الروسية الخاصة، وللتأكيد على أن دول عظمى مثل الصين تقف إلى جانب موقف روسيا الشرعي والمنطق والطبيعي في الحفاظ على أمنها القومي وأمن حدودها واستقرار جبهتها الداخلية.
أما زعماء أوروبا الذين يعلنون لنا ليل نهار عن اعتزامهم “الاعتراف بالدولة الفلسطينية”، فإنهم وكما نرى ونتابع يتلكؤون في القيام بذلك انتظارا لموعد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، على حد تعبيرهم. لكن نقص السيادة أو فقدانها بالأساس هو ما يجعلنا نلمس قدرة ومدى تأثير اللوبي على قراراتهم السياسية، وهو ما يمنعهم من القيام بذلك فعليا بدلا من مجرد الإعلان عنه. لذلك خاطبهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بقوله: “إذا أردتم الاعتراف، فلتعترفوا الآن”.
وحقا يتساءل المرء: “لم الانتظار ليوم غد، إذا كان من الممكن القيام بذلك اليوم؟!”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى