توغل مؤقت أم احتلال.. ما الذي تبحث عنه إسرائيل في سوريا بعد سقوط الأسد؟

بعد ساعات من دخول “إدارة العمليات العسكرية” العاصمة دمشق، وإسقاط نظام الأسد في الثامن من شهر كانون الأول الماضي، بدأت إسرائيل تحركات عسكرية مستغلة حالة الفراغ الأمني، وانشغال البلاد بترتيبات مرحلة انتقالية تنظم بها مستقبلها السياسي، لتبادر بتنفيذ واحدة من أكبر الهجمات الجوية في تاريخها، متبوعاً بتوغل بري غير مسبوق، توسع ليشمل كامل المنطقة العازلة في الجولان المحتل، التي جرى ترسيمها في اتفاق وقف الاشتباكات بين إسرائيل وسوريا عام 1974, وصولاً إلى جبل الشيخ في ريف دمشق، الذي يعطي إسرائيل قدرة استخباراتية عالية، حتى بات جيش الاحتلال على بعد أقل من 25 كيلومتراً من دمشق.
وكشفت صور أقمار صناعية التقطت حديثاً في 21 من الشهر الجاري، ونشرتها هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، عن قيام جيش الاحتلال الإسرائيلي بأعمال بناء في موقع يقع على بعد أكثر من 600 متر داخل المنطقة العازلة منزوعة السلاح التي تفصل مرتفعات الجولان المحتلة عن سوريا، حيث تظهر الصور بناء هياكل وشاحنات، إضافة إلى إنشاء مسار جديد يربط طريقاً قائماً يمتد إلى داخل الأراضي الإسرائيلية.
إلى جانب تحركاتها العسكرية، واصلت إسرائيل مهاجمة الإدارة السورية الجديدة، ووصفتها على لسان وزير خارجيتها، جدعون ساعر، بأنها “عصابة إرهابية”، رغم الدعم والترحيب العالمي الذي تلقته الأخيرة بشأن تصريحاتها وسياساتها وإدارتها لمرحلة ما بعد نظام الأسد، والقبول الواسع داخلياً وخارجياً، فعن ماذا تبحث إسرائيل في سوريا؟
مخاوف وقلق إسرائيلي
أحدث الانهيار السريع والمفاجئ لنظام الأسد، وسيطرة فصائل المعارضة السورية على المشهدين السياسي والعسكري في سوريا ارتباكاً وقلقاً حقيقياً لدى إسرائيل تجاه التطورات المتسارعة في سوريا، وزاد الغموض المحيط بمستقبل الدولة السورية الجديدة وطبيعة الحكم فيها، وموقفها المحتمل من إسرائيل واحتلالها للجولان من حدة المخاوف الإسرائيلية، بعد أن وفر لها النظام المخلوع استقراراً وهدوءاً طوال عقود على جبهتها الشمالية.
وعلى الرغم من أن النظام المخلوع لم يوقع اتفاقية سلام أو يقدم على تطبيع العلاقات علناً مع إسرائيل، إلا أنه حافظ على تهدئة مطلقة لجبهة الجولان، ملتزماً بشكل كامل باتفاقية “فك الاشتباك” الموقعة بين الجانبين عام 1974، وهو ما استغله النظام لاحقاً، بعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، لابتزاز إسرائيل وحلفائها لضمان بقائه في السلطة ومنع انهياره.
لذلك لم تعتبر إسرائيل الصراع الدائر في سوريا تهديداً مباشراً لأمنها، طالما التزم نظام الأسد بالحفاظ على استقرار الجبهة وأمنها، إذ تغاضت بداية عن التمدد الإيراني داخل سوريا وعن تحركات ميليشياتها الأجنبية والمحلية، التي كانت تهدف بشكل أساسي إلى دعم النظام ومنع انهياره.
واستمر الوضع على هذا النحو إلى أن تحولت إيران إلى استغلال اتّساع هامش الحركة لديها في نشر قواتها وإنشاء قواعد وبنى تحتية عسكرية، فكثفت إسرائيل ضرباتها الجوية ضد الوجود الإيراني، منذ العام 2013، وهو ما وصل إلى ذروته بعد “طوفان الأقصى” العام الماضي، من دون أن تبدي فعلياً أي رغبة في إسقاط نظام الأسد، الذي أشارت تقارير ومصادر أمنية عديدة إلى تنسيق أمني بين النظام وإسرائيل لتقليص نفوذ إيران على الأراضي السورية قبل انهياره بأشهر.
ومما يدّعم ذلك، أن إسرائيل تجنّبت تنفيذ أي توغل بري كبير مماثل لهذا التوغل خلال حقبة حكم الأسد، التي شهدت توسع النفوذ الإيراني وتهديداً مباشراً لأمن إسرائيل ومستوطناتها الشمالية، حيث اكتفت حينها بشن ضربات جوية محدودة على أهداف إيرانية داخل سوريا على فترات متباعدة، من دون اتخاذ خطوات تصعيدية أوسع.
وكانت صحيفة “يديعوت أحرونوت” العبرية كشفت في وقت سابق أنَّ رئيس النظام المخلوع، بشار الأسد، ألغى في اللحظة الأخيرة اجتماعاً كان مقرراً عقده مع رئيس الموساد الإسرائيلي، يوسي كوهين، أواخر عام 2019، بوساطة روسية، بهدف إبرام اتفاقية سرية تقضي بإبعاد نظام الأسد عن النفوذ الإيراني و”حزب الله”، مقابل تخفيف العقوبات الدولية المفروضة عليه.
وأوضحت الصحيفة أن التواصل السري بين مسؤولي الجيش الإسرائيلي وجهاز “الموساد” من جهة، ومسؤولين رفيعي المستوى في نظام الأسد المخلوع من جهة أخرى، بدأ مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 عبر تطبيق “واتساب”، نتيجة لتزايد الوجود الإيراني في البلاد، مؤكدة أن الاتصالات استمرت حتى لحظة إسقاط نظام الأسد.
ويبدو أن الانهيار السريع للنظام في سوريا، وهروب بشار الأسد المفاجئ خارج البلاد، شكّل صدمة لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي أخفقت في التنبؤ بهذا التطور، وراهنت على بقائه في السلطة وقدرته على الصمود، وهو ما أثار لغطاً وجدلاً واسعاً منذ اللحظات الأولى داخل الأوساط الإسرائيلية، حيث وُجّهت انتقادات للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لفشلها في استشراف سقوط النظام بهذه السرعة.
وفي هذا السياق، كشف المحلل العسكري لصحيفة “هآرتس” العبرية، عاموس هارئيل، أن الاستخبارات الإسرائيلية ركزت بشكل كبير على جمع المعلومات عن إيران وحزب الله، متجاهلة المعارضة السورية المسلحة وعدم اعتبارها تهديداً محتملاً قد يغير المعادلة على الأرض، مشيراً إلى أن الرهان كان على قدرة الأسد على إحباط محاولات إسقاطه، خاصة بعد دخول “إدارة العمليات العسكرية” إلى مدينة حلب.
في حين وجّه محلل الشؤون الاستخباراتية في صحيفة “يديعوت أحرونوت” رونين بيرغمان بعد يوم من سقوط الأسد انتقادات حادة للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية بسبب فشلها في توقع السقوط السريع للنظام، متهمًا إياها بالعجز عن تقديم تقديرات دقيقة للموقف المستقبلية.
تدمير قدرات الجيش السوري العسكرية
بناءً عليه، سارعت إسرائيل إلى توجيه ضربة عسكرية استباقية وتنفيذ واحدة من أكبر الهجمات الجوية في تاريخها، مستهدفة خلال 48 ساعة نحو 300 موقع عسكري في مختلف المناطق السورية، بمشاركة مئات الطائرات والسفن الحربية، ودمرت هذه الهجمات، وفق التقديرات الإسرائيلية، ما بين 70-80٪ من القدرات العسكرية الاستراتيجية للجيش السوري، بما في ذلك مطارات (مثل مطار المزة العسكري ومطار دمشق الدولي)، موانئ، منظومات دفاع جوي، سفن حربية، ومستودعات أسلحة متوسطة، زاعمة أن تحركاتها محدودة ومؤقتة، وأنها تأتي ضمن خطة دفاعية ووقائية تهدف إلى منع وقوع الأسلحة في أيدي “جهات معادية وغير آمنة”.
ويمكن القول، بأن تلك الضربات العسكرية كانت محاولة استباقية من إسرائيل لحرمان الجيش السوري المستقبلي من تشكيل أي تهديد محتمل عليها، وتفكيك مقوماته، وقطع الطريق أمام أي محاولة لإعادة بناء قوة عسكرية سورية على المدى القريب، فضلاً عن حرصها عبر تلك الضربات على تكبيل يد أي حكومة سورية مستقبلية، وجعلها خارج نطاق أي مواجهة محتملة معها.
توغل بري واسع وانتهاكات
لم تقتصر إسرائيل على عدوانها الجوي، بل شرعت في توغل بري غير مسبوق لإنشاء حزام أمني على حدودها الشمالية، لاسيما في محافظتي درعا والقنيطرة، عقب إعلانها على لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو انهيار اتفاق فض الاشتباك.
واستغلت فعلياً الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب قوات النظام المخلوع من مواقعها الحدودية، ودخول البلاد مرحلة انتقالية تنظم بها أمورها، فقد احتلت كامل المنطقة العازلة، ومدن وبلدات في محافظتي القنيطرة ودرعا، إضافة إلى توغلها في منطقة حضر واحتلالها جبل الشيخ الاستراتيجي المطل على مدينة دمشق.
ورافق التوغل البري إسرائيلي عمليات ممنهجة استهدفت مخازن أسلحة وذخائر موجودة في عدة مناطق في القنيطرة، شملت تفجير مستودعات أسلحة عُثر عليها، والبحث عن مخازن أخرى زعمت إسرائيل أنها مدفونة تحت المنازل أو في أنفاق تعود إلى فترة النظام المخلوع، بعد توسيع نطاق عملياتها البرية في محافظة القنيطرة، وصولاً إلى اقتحام جيشها مدينة البعث، المركز الإداري والخدمي للمحافظة، وطرد موظفين من الدوائر الحكومية فيها، تحت ذريعة التفتيش، وليس انتهاءً باستهداف مسيراتها رتلاً عسكرياً تابعاً لإدارة العمليات العسكرية في بلدة غدير البستان جنوبي القنيطرة، أسفر عن مقتل مختار البلدة واثنين من عناصر إدارة العمليات، وإصابة عدد من المدنيين والعسكريين.
كذلك شهدت تلك المناطق سلسلة من الانتهاكات الإسرائيلية ضد سكانها، حيث باشرت قوات الاحتلال الإسرائيلي مصادرة الأسلحة من المدنيين، ضمن سياسة تهدف إلى نزع السلاح بالكامل من المنطقة المحاذية للجولان، إضافة إلى عمليات تفتيش واسعة للمنازل.
رافق ذلك في معظم الأحيان إطلاق نار عشوائي، وحظر تجوال في كثير من الأحيان، واعتقالات من دون توضيح الأسباب، وهو ما زاد من حدة التوتر والغضب الشعبي في المنطقة، وأسفر في بعض الأحيان عن تصادم بين السكان وقوات الاحتلال، كما حدث في وقت سابق في بلدة السويسة في ريف القنيطرة الجنوبي، التي شهدت إطلاق قوات الاحتلال النار على مظاهرة شعبية احتجاجًا على التوغل الإسرائيلي، ما أدى إلى إصابة ستة أشخاص.
مؤشرات بقاء طويل الأمد؟
يعكس التوغل البري الواسع الذي نفذته إسرائيل على طول الشريط الحدودي مع الجنوب السوري سعياً إسرائيلياً إلى فرض أمر واقع جديد على السلطة السورية الجديدة، وامتلاك أكبر قدر من الأوراق التفاوضية معها لتساوم عليها مستقبلاً، بحيث تفرض شروطها وإملاءاتها، المتمثلة في الحفاظ على الهدوء في جبهة الجولان المحتل، مقابل التراجع عن المناطق التي احتلتها بعد سقوط نظام الأسد، وفي مقدمتها جبل الشيخ والمنطقة العازلة بالكامل، التي أوعز نتنياهو للجيش الإسرائيلي بالاستعداد للبقاء فيها حتى نهاية عام 2025 على أقل تقدير، وفقاً لما نقلته إذاعة جيش الاحتلال.
ويرى الصحفي والأكاديمي السوري المختص بالشأن الإسرائيلي، خالد خليل، أن الوجود الإسرائيلي في الجنوب السوري مؤقت، وأن إسرائيل ستنسحب رغم إعلانها بقاء قواتها حتى نهاية عام 2025، مشيراً إلى أن إسرائيل تسعى، من خلال هذا التوغل، إلى تعزيز مكانتها الجيوسياسية في المنطقة من خلال استغلال الظروف التي تمر بها سوريا بعد الإطاحة بنظام الأسد، وانطلاقاً من الساحة السورية التي لطالما خبرتها.
من جهة أخرى تحاول تل أبيب، التسويق لسردية جديدة بأنها تريد حماية مستوطنات الشمال خلافاً لما كانت تعلنه طوال العقد الماضي بأنها تحارب التوغل الإيراني إلى حدودها الشمالية، وهي بذلك تريد الحفاظ على حرية التحرك داخل سوريا، بذريعة منع أي تهديد مستقبلي قد يعرض أمنها القومي للخطر، بالإضافة إلى حماية سكان الشمال، وسط صمت أميركي وغربي لانتهاكات إسرائيلية الجديدة في سوريا.
وفي العاشر من الشهر الجاري، أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية أن الاحتلال يخطط لإقامة “منطقة سيطرة”، بطول 15 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، و”مجال نفوذ استخباري”، يمتد لنحو 60 كيلومتراً، ونقلت الصحيفة عن مسؤولين إسرائيليين قولهم إن الجيش الإسرائيلي “سيحافظ على وجود لضمان عدم تمكن حلفاء النظام الجديد في سوريا من إطلاق الصواريخ باتجاه مرتفعات الجولان”.
ويؤكد خليل لموقع تلفزيون سوريا أن هذه التحركات العسكرية تُعد محاولة إسرائيلية لإرساء معادلة أمنية جديدة في المنطقة بعد إنهاء مرحلة التنافس الإقليمي مع إيران، التي استمرت لعقدين من الزمن، تسعى تل أبيب من خلالها إلى فرض تفوقها العسكري، إضافة إلى استغلال حالة المخاض السياسي في سوريا لتحقيق مكاسب سياسية مستقبلية وخلق واقع أمني جديد، مما يمنحها أوراقاً تفاوضية مستقبلية مع دمشق.
ويشير الصحفي خالد خليل إلى أن هناك دوافع شخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يسعى إلى الظهور بمظهر “حامي حمى إسرائيل ورجلها القوي”، عبر توسيع الحرب إلى لبنان وسوريا لتعويض الفشل في غزة، معتمداً على الحرب والقوة العسكرية كأداة أساسية في فرض سياسته.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر