لجان الحقيقة.. بين العقاب والتصالح والأمل بأنهُ “لن يحدث مجدداً” في سوريا

تشير التقارير إلى أن العدد التقريبي لمن غيّبهم نظام الأسد قسراً بعد 2011 يزيد على 113 ألفاً. عدد لا يحتاج التأكد منهُ إلى إجراء إحصاء شامل يوضح تعداد السوريين، وإفصاح شامل لأهالي المعتقلين والمغيبين الذين أخفوا اعتقال وتغييب أبنائهم قبل 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 خوفاً من ملاحقات النظام المخلوع. يُضاف هذا إلى الأعداد المقدّرة للباحثين عن أبنائهم من المطالبين بالعدالة وكشف الحقيقة، ثم التعامل مع مرتكبي هذه الجرائم كواحدة من انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا.
لا تعتبر الاعتقالات والإخفاء القسري الانتهاك الوحيد لحقوق الإنسان الذي تعرض له السوريون خلال السنوات الـ14 الأخيرة، ولكنه الجرح الأكثر ألماً، والمترافق مع ارتفاع أصوات تطالب بالكشف عن مصير المغيبين، والمناداة بالبدء في تطبيق أولى خطوات العدالة الانتقالية عبر محاكمة الجناة، على أن تكون هذه المحاكمات عقابية، وصارمة، ومُنصفة تعيد حق المغيبين بمعرفة مصيرهم وصولاً إلى القصاص من المجرمين. وهذا أمر ممكن مع وصول الشق المعارض المسلح “الإسلامي” إلى السلطة، وتركيز القوة والقرار بيده.
سوريا .. جدل بين العدالة الانتقالية والتسامح
على الجانب الآخر، خرج الشرع، قائد الإدارة، بالحديث عن العفو والتصالح بالتزامن مع مطالب بعضٍ ممَّن شاركوا أو شهدوا أو قد يُحسبون على الجناة (بالقرابة أو الانتماء الديني والمناطقي) بالعفو الكامل “كبادرة حسن نية” من السلطة الحالية، مستفيدين من التفكك الاجتماعي الذي عززه نظام المخلوع خلال 14 عاماً على الأقل، واستخدامه الاستقطاب الطائفي في المشاركة بالمقتلة التي تصب في بقاء رأس النظام.
هذا الطرح يثير جدلاً حول اختصار العدالة الانتقالية في سوريا بإرادة شخص أو حكومة، وعن شكل العدالة واحتمالات أن يكون طابعها موجهاً نحو العدالة العقابية بالقصاص من المجرمين، أم باتجاه العدالة التصالحية والعفو؟ وهو ما يحاول هذا المقال الجدال فيه بالاستفادة من تجارب الدول الأخرى التي عايشت ديكتاتوريات وأنظمة فصل عنصري، وتسليط الضوء على إمكانات تطبيقها في ظل واحدة من أكبر حالات التغييب والتدمير الاجتماعي في التاريخ المعاصر.
ضرورة العدالة الانتقالية في تحقيق المصالحة الشعبية المأمولة
خلال عملية التحول السياسي في مرحلة ما بعد الصراع، يكون من الضروري لتحقيق التحول السياسي الدخول في سياقين متوازيين، قانوني واجتماعي، للتعامل مع الانتهاكات التي تم ارتكابها من قبل الأطراف المتصارعة. وهنا تتوسط العدالة الانتقالية، باعتبارها المساحة التي تتقاطع فيها السياسة مع القانون وعلم الاجتماع والتاريخ.
يُعرفها المركز الدولي للعدالة الانتقالية (ICTJ) بأنها جملة الآليات التي تستخدمها المجتمعات لمعالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، لضمان المساءلة وتحقيق العدالة للضحايا وصولاً إلى المصالحة الوطنية. وتقوم على مجموعة من التدابير التي تبدأ بالسمات القانونية المتعلقة بالملاحقات القضائية، والتدابير غير القانونية المتمثلة في البحث عن الحقيقة، والإصلاح المؤسساتي وصولاً إلى جبر الضرر وتكريم الضحايا عبر إحياء ذكراهم.
لجان الحقيقة تعتبر الخطوة الأولى في تفعيل آليات الجانب القانوني وسياقه القضائي، فمنهج عملها يحدد مفهومي “الاعتراف والعدالة” في مناطق الصراع السابق، والتي تقوم على الوضوح في المشهد قبل البدء في المساءلة وبناء شكل المرحلة الانتقالية. هذه اللجان هي مؤسسات تحقيقٍ رسمية ذات صفة مؤقتة من دون صلاحيات قضائية، وتُنشأ لفترات زمنية محددة بهدف التحقيق في ثلاثة اتجاهات رئيسة، هي: السياقات التي حدثت فيها الانتهاكات، وتحديد الأسباب التي وقفت خلفها، وتعيين عواقب هذه الانتهاكات المحددة والتي حدثت في مجال زمني ومكاني معين.
فالهدف منها يتجاوز تدوين القصص الفردية للضحايا، فهي ذات معنى أوسع يقوم على بناء سردية مشتركة، وإنشاء “حقيقة جماعية” تؤطر الحقائق التي عاشها الأفراد.
وبالتالي، في الحالة السورية، سيتمثل عملها في التحقق من وقوع انتهاكات لحقوق الإنسان، وهو أمر حقيقة واضحة في سوريا، يليه وضع قائمة بالانتهاكات التي سيتم التحقيق فيها. ثم إنشاء سجل تاريخي تُجمع فيه السرديات الفردية ضمن “سجل الحقيقة الجماعية”، ليتم بعدها مقاطعة هذه السرديات والوصول إلى قصة شاملة للانتهاكات، وتقديمها لآليات المرحلة الانتقالية ولجانها، والتي يتم بموجبها تقديم تعويضات للضحايا ومحاسبة المجرمين. وهذا ما يحتاج إلى وجود حكومة انتقالية، لا تتوفر في السياق السوري اليوم، لتطلق العملية على أرضية أكثر استقراراً وتتمكن من تحقيق العدالة التي تعيد للضحية حقه.
مأساة التغييب القسري من الأرجنتين إلى سوريا
تتقاطع الانتهاكات التي حصلت في سوريا، من أحد جوانبها، مع ما عايشته الأرجنتين. ففي سبعينيات القرن الماضي، تسلّمت السلطة ديكتاتورية قمعية حكمت البلاد من عام 1976 حتى 1983، مما تسبب في اختفاء ما يقارب 30 ألف شخص، وفقاً لتوثيقات الحركات المدنية التي أنشأتها عوائل المفقودين، مثل حركة “أمهات ميدان مايو”.
بعد سقوط الديكتاتورية والمجلس العسكري الذي قاد البلاد عام 1983، أعلنت الحكومة الجديدة، في سياق توثيق الجرائم المرتكبة من قبل الدولة والنظام القمعي، عن أول صور لجان الحقيقة في العالم الحديث تحت اسم “اللجنة الوطنية لاختفاء الأشخاص (CONADEP)”. كانت هذه اللجنة تهدف إلى التحقيق في حالات الاختفاء القسري والاعتقالات غير القانونية وما تضمنته من انتهاكات لحقوق الإنسان والموت تحت التعذيب.
وفرت هذه اللجنة أدلة ملموسة عبر جمع الوثائق وتحديد الانتهاكات، مما جعل إنكار الجريمة أو الإفلات من العقاب أمراً بالغ الصعوبة.
تمكنت هذه اللجان من توثيق 8961 حالة اختفاء قسري، وكشفت ضمن تقريرها الذي حمل اسم “لن يحدث مجدداً” “Nunca Más” عن سردية جماعية للضحايا. حيث عثرت على مراكز الاعتقال السرية، وكشفت ممارسات التعذيب المتبعة فيها، وحددت كيفية تورط أجهزة حكومية، مثل أجهزة الأمن، في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتمكنت، في مرحلة ما، من إعادة بناء الثقة المجتمعية، خاصة بين الدولة والمجتمع، حيث كان إظهار الحقيقة الخطوة الأولى نحو المصالحة الوطنية القائمة على مفهوم العدالة.
ولكن هل جلبت العدالة العقابية العدالة للجميع؟
لا يمكن الجزم بأن أسلوب وسياق عمل اللجنة الوطنية لاختفاء الأشخاص كان أفضل الممارسات والآليات التي يمكن اتباعها في الأرجنتين. فمن جهة، استمرت آلاف العوائل الأرجنتينية في البحث عن أبنائها المفقودين، الذين قدّر عددهم بأكثر من عشرين ألفاً، وما زالت بعض عمليات البحث قائمة حتى اليوم. ومن جهة أخرى، حددت اللجنة في تقريرها “لن يحدث مجدداً” نقطة محورية للعدالة وأشعلت الذاكرة الحية في الأرجنتين والعالم، حيث قادت العديد من الجناة إلى المحاكم والعقاب.
لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا: الاعتراف باب المصالحة
لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا (TRC) هي مبادرة تتضمن مزيجاً من الكشف عن حقيقة الجرائم التي حدثت خلال حكم نظام الفصل العنصري “Apartheid”، الذي امتد على مدار 46 عاماً، ومن استحضار العدالة بطابعها التصالحي الذي يدعم خطوات المصالحة المجتمعية. تأسست اللجنة خلال عام واحد من تسلّم مانديلا للحكم سنة 1995، واعتمدت على العدالة التصالحية القائمة على العفو عن الجناة ممن يعترفون بجرائمهم الكاملة، مع التهديد بالملاحقة القضائية لمن يرفض التعامل معها.
قسّمت اللجنة الحقيقة إلى أربعة أنواع، وهي:
الحقيقة الجنائية: التي تقوم على الأدلة.
الحقيقة السردية (الشخصية): القائمة على شهادات الأفراد.
الحقيقة الاجتماعية: التي تقوم على النقاش المجتمعي.
الحقيقة التصالحية: التي تهدف إلى الاعتراف بمعاناة الفرد ضمن سياق مجتمعي أوسع.
أسباب التوجه إلى العدالة التصالحية في جنوب أفريقيا
توجهت عدالة جنوب أفريقيا الانتقالية إلى التصالح بسبب التوازن الهش للقوى بين نظام الفصل العنصري والحركات المناهضة له، مع استمرار نفوذ كبير لنظام الفصل العنصري في مفاصل الدولة. هذا الوضع هدد استمرار المفاوضات الممهدة لتأسيس النظام الجديد، مما كان قد يؤدي إلى العودة لشكل أسوأ من النظام السابق أو الدخول في حالة من الفوضى.
تُعيد بعض الأدبيات التوجه إلى العدالة التصالحية بدلاً من العدالة القضائية إلى عجز النظام القضائي في جنوب أفريقيا، سواء من حيث الكفاءة أو الموارد، عن التعامل مع العدد الكبير من منتهكي حقوق الإنسان. لذلك، كان من الضروري الحفاظ على حالة من الاستقرار تُبنى عليها خطوات الانتقال، والتوجه إلى نقطة وسط بين محاكمة الجناة من النظام العنصري أو العفو عنهم.
انتقادات نموذج العدالة التصالحية في جنوب أفريقيا
حمل هذا النموذج ظلماً كبيراً للضحايا، إذ لاقى انتقادات عديدة، منها:
تقديم جزء من الحقيقة فقط، بسبب محدودية المشاركين من الضحايا والجناة الذين تخوفوا من العواقب القانونية والاجتماعية.
غياب العدالة الجنائية، حيث لم تتم ملاحقة حقيقية لمرتكبي الجرائم، مما منح الجناة شعوراً بالحصانة، وأبقى الضحايا في حالة من المظلومية المستمرة.
عدم حدوث تغييرات جوهرية على صعيد هيكل الدولة والمجتمع القائم على عدم المساواة.
عدم كفاية التعويضات الممنوحة للضحايا، مقارنة بحجم الفقدان الذي ألمّ بهم.
العقاب أم التصالح؟ سوريا والتركة الثقيلة
ينعكس الصراع السوري بتعقيده وشموليته وحجم الضحايا والخسائر الضخمة على تحديد زمان وآلية البدء بالعملية الانتقالية وإطلاقها، مما يستلزم وجود حكومة انتقالية قادرة على تحديد أرضية العدالة وتوجهها، أي امتلاك القدرة على الموازنة بين:
طبيعة الصراع العنيف الذي تخللته جملة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان، وبالتالي اتساع شريحة الضحايا السوريين مع تركّز العنف من طرف واحد بشكل رئيسي، وهو ما يُظهر ضرورة القصاص وتقديم حق الضحايا والمجتمع “العادل” للجميع، والتوجه للكشف عن الحقيقة فوق كل اعتبار.
الشكل المتخيل والمأمول للسياق السياسي “الجامع” في سوريا خلال مرحلة ما بعد السقوط، والذي سيبني المصالحة الوطنية والاستقرار الطويل الأمد في ظل الاستقطاب المجتمعي العالي بين شرائح المجتمع.
هذا يجعل لجان الحقيقة في سياق العدالة الانتقالية للعدالة العقابية الكاملة أو التصالحية بشكل تام غير مجدية في سوريا. إذ يقوم كل منهما بشكل أساسي على طبيعة الإرث القمعي الخاص بالدولة التي طُبق فيها، والانتهاكات وتأثير الجناة فيها بعد تغيير النظام، إلى جانب الدور الاجتماعي الذي يأخذ الدور المحرك في كل منهما، والموجه لدفة العدالة بشكل عام، والتي لم تكن بحجم وتداخل المجتمع السوري وهشاشة علاقاته المجتمعية اليوم.
التوجه نحو نموذج هجين للعدالة في سوريا
يحتاج تحقيق التوازن في سوريا إلى دمج هجين للأسلوبين العقابي والتصالحي، من خلال الاستفادة من نموذج الأرجنتين القضائي لتوثيق الانتهاكات وضمان العدالة للمتضررين من كل الأطراف – على الأقل أن تشمل الأكثر تضرراً من عوائل المعتقلين والمغيبين قسراً والمفقودين، والمقتولين عمداً بشتى أنواع أساليب الموت التي مورست في سوريا.
يمكن تحقيق ذلك عبر تحديد الانتهاكات التي حدثت، وأطرافها المسؤولة عنها، وتحديد درجة انخراطهم فيها، ومن ثم اتباع النهج القضائي في التعامل مع المتورطين. يتم توثيق هذه الانتهاكات بآلية خاصة مصونة وسرية تُعنى بها الجهات الحقوقية بالتعاون مع الجهة المدنية وبإشراف حكومي. بذلك، يتم تفعيل العدالة العقابية والدفع نحوها كآلية محاسبة واضحة وضرورية لبناء دولة ما بعد الديكتاتورية العسكرية.
الوضع في سوريا يعزز هذا المسار ويمكنه أن يحقق العدالة لشريحة أكبر من تلك التي حدثت في الأرجنتين – التي أثر عليها الضغط الخارجي في المحاسبة وعرقلها – خاصة أن الانتهاكات في سوريا لا تقتصر على التغييب القسري والقتل الميداني، بل تشمل طيفاً أوسع من الجرائم.
استلهام المرونة من تجربة جنوب أفريقيا
إلى جانب ذلك، يجب أخذ آليات المرونة من تجربة جنوب أفريقيا في الكشف والاعتراف بالجرائم بشكل علني للفئات المستثناة من الآلية العقابية، والتي كانت جزءاً من الصراع، ليشارك فيها الجميع ومن كل الأطراف لبناء السردية الوطنية، والاعتراف بما حصل في سبيل بناء الثقة وترميم النسيج الاجتماعي.
هذا النهج يشجع الحوار الوطني ويسهم في الموازنة بين ثلاثة من أعمدة بناء الدولة الجديدة المأمولة، وهي: العدالة، والاستقرار، والسلام.
للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر