أخبار العالم

من سوريا إلى أفغانستان: هيئة تحرير الشام تعيد تشكيل المشهد الجهادي في آسيا الوسطى

القاهرة: هاني كمال الدين  

في تطور جديد يحمل تداعيات خطيرة على الأمن الإقليمي والدولي، شرعت هيئة تحرير الشام، المصنفة جماعة إرهابية، في توسيع نشاطها خارج حدود سوريا، حيث بدأت تنتشر في مناطق شمال أفغانستان، مستغلة الفراغ الأمني وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى الانقسامات السياسية في البلاد. هذا التمدد الجهادي الجديد يعيد رسم خريطة التنظيمات المسلحة في جنوب آسيا، ويهدد مصالح قوى إقليمية كبرى مثل إيران والصين ودول آسيا الوسطى.

تُعد هيئة تحرير الشام واحدة من أقوى التنظيمات المسلحة التي نشأت في سوريا خلال الحرب الأهلية. تشكلت في عام 2017 بعد اندماج عدد من الفصائل، أبرزها جبهة النصرة، الذراع السابق لتنظيم القاعدة في سوريا. ومنذ ذلك الحين، تمكنت الهيئة من بسط نفوذها في محافظة إدلب وأجزاء من شمال غرب سوريا، متخذة موقفًا أكثر براغماتية من التنظيمات الجهادية الأخرى، من حيث تقديم نفسها كقوة محلية ذات مشروع سياسي واضح.

لكن يبدو أن طموحات الهيئة تتجاوز الحدود السورية. وفقًا لتقارير أمنية ومصادر محلية من داخل أفغانستان، بدأت الهيئة منذ أواخر عام 2024 بنقل عناصر مدربة من سوريا إلى أفغانستان، حيث تمركزت في مناطق جبلية نائية داخل ولاية بغلان الشمالية، وتحديدًا في وادي أنداراب. ويُعد هذا الوادي معقلًا تقليديًا للتيارات السلفية الجهادية، ويصعب على قوات طالبان أو الحكومة المركزية فرض سيطرتها عليه.

يتولى قيادة الخلية الأفغانية التابعة لتحرير الشام القيادي المعروف بـ”مولوي عبد الفتاح”، وهو شخصية غامضة تحمل سجلًا طويلًا من القتال في سوريا والعراق. وتشير التقارير إلى أنه قاتل في صفوف تنظيم القاعدة سابقًا، قبل أن ينضم لاحقًا إلى هيئة تحرير الشام، ويصبح أحد أبرز قادتها العسكريين في شمال إدلب. ويعتقد أن عبد الفتاح نُقل إلى أفغانستان بتكليف مباشر من قيادة الهيئة، بهدف تأسيس فرع ميداني لها في قلب آسيا الوسطى.

ويحظى هذا التمدد بدعم من حركة محلية تعرف باسم “حزب التحرير”، وهي حركة سلفية جهادية صغيرة يقودها مولوي يحيى، إمام مسجد محلي في منطقة بغلان. وبحسب مصادر محلية، فإن يحيى يعمل كحلقة وصل بين الهيئة والمجتمع المحلي، مستفيدًا من نفوذه الديني في تجنيد الشباب وتقديم الغطاء الشرعي لتحركات الجماعة. وقد أظهرت مقاطع فيديو متداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي خطبًا له يشيد فيها بالجهاد ضد الطغاة والكافرين، ويدعو لتوحيد الصفوف تحت راية تحرير الشام.

وتعتمد الهيئة في تمويل عملياتها على مصادر متعددة، أبرزها الدعم المالي من شبكاتها في تركيا والخليج، بالإضافة إلى شبكات التهريب وبيع الآثار والموارد الطبيعية التي تسيطر عليها في سوريا. وفي أفغانستان، تستخدم هذه الموارد لتجنيد عناصر جديدة من الفقراء والعاطلين عن العمل، حيث يُعرض على المجند مبلغ يصل إلى ألف دولار، يُقسم بينه وبين الوسيط المحلي الذي يسهل العملية.

كما تلعب المساجد دورًا محوريًا في عملية التجنيد، إذ يستغل أئمة متشددون المنابر للتحريض على القتال، مستندين إلى تأويلات متطرفة للنصوص الدينية. وتفيد تقارير ميدانية بأن الهيئة افتتحت مدارس دينية غير رسمية في القرى النائية لتلقين الأطفال أفكارًا متشددة، وتحضيرهم لاحقًا للانخراط في النشاط المسلح.

هذا التوسع لا يمر دون تداعيات إقليمية، فإيران، التي تشترك في حدود طويلة مع أفغانستان، تنظر بقلق إلى تحركات الجماعة السنية المتشددة بالقرب من حدودها الشرقية. وقد حذرت مصادر استخباراتية إيرانية من أن هيئة تحرير الشام تسعى إلى فتح جبهة جديدة على حدودها، مستغلة التوتر الطائفي ومحاولة استقطاب عناصر من البلوش السنة.

أما الصين، فتواجه خطرًا مضاعفًا. إذ تخشى بكين من أن تستخدم الهيئة الأراضي الأفغانية كمنصة لإعادة تجميع مقاتلي حركة تركستان الشرقية، الذين قاتلوا في سوريا ضمن صفوف الجماعات الجهادية، وعادوا اليوم لنشاطهم في مناطق قريبة من حدود إقليم شينجيانغ، الذي تسكنه أقلية الإيغور ذات الأغلبية المسلمة.

كما أن دول آسيا الوسطى، وعلى رأسها طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، تجد نفسها في دائرة الخطر، خصوصًا أن التجنيد يستهدف أبناء هذه الدول الذين يمرون بأوضاع اقتصادية هشة. وتشير تحليلات إلى أن هذه الدول قد تتحول إلى ممرات لوجستية أو حتى ساحات نشاط مسلح في حال تصاعد نفوذ الهيئة هناك.

في المقابل، لا يبدو أن طالبان تبدي معارضة قوية لوجود هيئة تحرير الشام في مناطق سيطرتها. ويرى محللون أن طالبان ربما تسعى لتحقيق توازن في وجه تمدد تنظيم “الدولة الإسلامية في ولاية خراسان”، الذي يعد العدو الأكبر لها حاليًا. ومن غير المستبعد أن تكون هناك تفاهمات غير معلنة بين قيادة طالبان والجماعات الجهادية الأخرى لتوزيع مناطق النفوذ، أو على الأقل لتجنب الصدام المباشر.

وتُشير مؤشرات ميدانية إلى أن الصراع على النفوذ الجهادي في أفغانستان قد يشهد تصاعدًا خلال الأشهر المقبلة، مع دخول هيئة تحرير الشام على الخط. إذ ترفض “ولاية خراسان” أي وجود لجماعات أخرى، وتعتبر نفسها الممثل الوحيد للتيار السلفي الجهادي. وقد سبق أن نفذت هجمات ضد قادة من القاعدة وطالبان، مما ينذر باحتمال اندلاع مواجهات دموية مستقبلية.

في ظل هذا المشهد المعقد، يبدو أن أفغانستان تدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، حيث تتقاطع مصالح التنظيمات الجهادية مع حسابات القوى الإقليمية والدولية. وتزداد الحاجة إلى تحرك منسق لاحتواء التهديد المتصاعد، بدءًا من تعزيز قدرات الدول المجاورة على مراقبة الحدود، إلى دعم برامج التوعية ومكافحة الفكر المتطرف.

ورغم خطورة الوضع، لا تزال العديد من الحكومات تتعامل مع تمدد هيئة تحرير الشام في أفغانستان كحدث هامشي. إلا أن الحقائق الميدانية تُظهر أن الجماعة تسير بخطى ثابتة نحو بناء قاعدة عمليات جديدة، قادرة على تهديد الأمن القومي لدول تمتد من إيران وحتى حدود الصين. ومن المرجح أن تُشكل هذه التطورات محورًا مهمًا في أجندات الأجهزة الاستخباراتية خلال الفترة المقبلة، مع ترقب لردود فعل محتملة قد تشمل عمليات عسكرية استباقية أو تعاونًا دوليًا لاحتواء الخطر قبل أن يتحول إلى أزمة أمنية شاملة.

للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى