مقالات

لقاء بوتين وترامب سيكون فقط في بودابست

الكاتب والمحلل السياسي/ رامي الشاعر

صرح المرشح لمنصب نائب وزير الحرب الأمريكي روبرت كادليك بأن على الولايات المتحدة أن تطور “خيارات نووية” للرد على بعض النزاعات الإقليمية المحتملة.

كما قال كادليك إن استراتيجية الردع النووي لحلف “الناتو” ربما تتغير بسبب نشر الأسلحة النووية التكتيكية الروسية في بيلاروس. ونلفت عناية القارئ هنا إلى أن روسيا لجأت إلى ذلك بعد عقود طويلة من “المهام النووية المشتركة” كما يحب أن يسميها “الناتو”، والتي نشرت بموجبها أسلحة نووية تكتيكية أمريكية في خمس دول أعضاء بالحلف. تماما كما لجأت روسيا لعمليتها العسكرية الخاصة بأوكرانيا بعد عقود طويلة من انتهاك “الناتو” لكافة الخطوط الحمراء التي وضعتها روسيا لأمنها القومي، وعدم جواز اختراق أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا لما يمثله ذلك من خطورة على الأمن الروسي، وهو ما بدأ في خطاب بوتين أمام مؤتمر ميونيخ للأمن عام 2007 وانتهى بوثيقة الضمانات الأمنية التي أرسلتها موسكو إلى الولايات المتحدة و”الناتو” في ديسمبر 2021. كما تجري الولايات المتحدة كذلك اتصالات مع كوريا الجنوبية واليابان لنشر أسلحة نووية في أراضي تلك الدول وهو أمر جد خطير، وألعاب تدفع العالم نحو الهاوية.

الجدير بالذكر هنا، أن روسيا لم ولا تعتزم إجراء تجارب نووية، وقد لفت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في اجتماع مجلس الأمن الروسي الأخير إلى تصريح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي قال فيه إن “روسيا والصين تقومان بذلك منذ زمن طويل”. وقد أمر بوتين بعدم إجراء التجارب النووية أو حتى الاستعداد لها، إلا أن الخارجية الروسية والهيئات ذات الصلة، بما في ذلك الجيش والاستخبارات، قد تم تكليفها بتحليل الوضع والتوصل إلى توافق في الآراء بشأن مدى استيفاء الوضع لاستئناف التجارب النووية ردا على تلك النوايا والتصريحات الأمريكية الخطيرة.

وكان الرئيس بوتين قد حدد موقف موسكو الأساسي عام 2023، عندما قال، ردا على سؤال بهذا الشأن، إنه إذا أجرت أي من القوى النووية تجارب على الأسلحة النووية (ولا يدور الحديث هنا عن حاملات الصواريخ، أو الاختبارات ما دون الحرجة) فإن روسيا ستفعل الشيء نفسه.

 وبالحديث عن الواقع والحقائق على الأرض، فإن آخر اختبار نووي لروسيا كان عام 1991، وللولايات المتحدة عام 1993. بمعنى أنه قد مر أكثر من 30 عاما على ذلك، ثم أجرت الصين كذلك اختبارا نوويا عام 1996، وكان آخر اختبار نووي أجري حول العالم لكوريا الشمالية عام 2017.

منذ ذلك الحين، لم تظهر أي مؤشرات على استعداد أي جهة لاستئناف تلك التجارب، وهو أمر يتابعه المختصون، حيث أن هناك نظام مراقبة عالمي، تشارك فيه روسيا والولايات المتحدة، يعتمد على بيانات زلزالية ويسجل أي اهتزازات أرضية خاصة بذلك، ولا يجب الخلط هنا فيما يخص التجارب النووية تحديدا.

أما ما أعلنه الرئيس بوتين بشأن تطوير وإنتاج صاروخ “بوريفيستنيك” النووي المجنح، فلا يندرج تحت بند أي تجارب نووية، برغم قدرة الصاروخ على حمل رؤوس نووية، لأن التجارب كانت تخص فحسب المدى غير المحدود ونظام الدفع النووي للصاروخ الذي يمكن استخدامه في البرنامج الفضائي القمري وتطبيقه في المجالات المدنية. ولم يذكر الرئيس بوتين أو أي من المسؤولين أو الخبراء من قريب أو من بعيد أي شيء عن أي “تجارب نووية”. من هنا يتبين اللبس الذي وقعت فيه إدارة البيت الأبيض، وربما الرئيس ترامب وحده، بشأن “بوريفيستنيك” وغيره من الصواريخ والمسيرات التي تعتمد على مفاعلات نووية متناهية الصغر تتيح لها القدرة على أن تكون بلا سقف من حيث المدى أو زمن التحليق/الإبحار.

لا أشك للحظة أن هناك في أروقة السياسة الأوروبية وبين أعداء الرئيس ترامب من يصطادون في الماء العكر، وينشرون تصريحات وأكاذيب لتبدو وكأن الطريق نحو تطبيع العلاقات الروسية الأمريكية مسدود، ومن ذلك ما نشرته “فاينانشال تايمز” منذ أيام حول “ورقة غير رسمية” قيل إنها أرسلت “بعد” محادثة بوتين وترامب الهاتفية، وهو ما عرقل إعدادات وانعقاد قمة بودابست بين الرئيسين، إلا أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف كشف أن تلك “الورقة”، لم تكن سوى مذكرة غير رسمية أرسلت بالفعل إلى الإدارة الأمريكية ليس “بعد“، وإنما “قبل” محادثة بوتين وترامب، وكان الغرض منها تذكير الجانب الأمريكي بما تمت مناقشته بالفعل في أنكوريج بألاسكا خلال قمة الرئيسين أغسطس الماضي، والتفاهمات التي تم التوصل إليها، للبناء عليها، ولم تتضمن المذكرة أي شيء سوى ما نوقش في أنكوريج.

وحول المحادثة بين الوزير لافروف ونظيره روبيو، عقب المكالمة التليفونية بين الرئيسين بوتين وترامب، 16 أكتوبر الماضي، فقد اتصل روبيو بالفعل بلافروف بعد ثلاثة أيام، الذي قال إن المحادثة كانت “جيدة ومهذبة وسلسلة”، وتم تأكيد الرغبة في البناء على تفاهمات أنكوريج من حيث المبدأ، وصرح روبيو بأن المحادثة كانت “بناءة”، وكان من المفترض أن تكون الخطوة التالية هي الاجتماع بين المتخصصين في الخارجية والجيش وربما أجهزة الاستخبارات. إلا أن الأمريكيين، وفقا للافروف، لم يتخذوا أي إجراء آخر، فيما صدر بيان يفيد بـ “عدم جدوى اللقاء”، وقال روبيو إن المحادثة مع لافروف “أظهرت بوضوح موقف الروس، لذلك لم يكن الاجتماع ضروريا”.

أرى أنه من السخافة الاعتقاد بأن “ترامب” أو أيا من إدارته “أصدقاء” لروسيا، بل على العكس، نلمح في تصريحات وسياسات روبيو عداء واضحا، ربما يلجمه ترامب بعض الشيء، لا لشيء إلا لرغبة الأخير في إنهاء حربه العاشرة أو العشرين، حتى يمكنه الترشح لجائزة نوبل للسلام العام المقبل، وحتى يدخل التاريخ من أوسع أبوابه كما يظن. كذلك فإن مبعوث الرئيس ستيف ويتكوف هو الآخر يتحرك بدبلوماسية لبقة لكنه في نهاية المطاف عبد المأمور، يقوم بما يتيحه له سقف التفاوض الذي يحدده له ترامب وروبيو.

يعلم فريق ترامب اليوم أن الوضع الراهن في ساحة المعركة جد خطير بالنسبة لأوكرانيا و”الناتو”، حيث تؤكد وزارة الدفاع الروسية مواصلة قواتها التقدم في أحياء كراسنوأرميسك (بوكروفسك الأوكرانية) وتطهيرها لمزيد من المباني، وتدفع تلك التطورات الميدانية بالأزمة الأوكرانية نحو منعطف استراتيجي بالغ الأهمية، حيث قال متحدث الكرملين دميتري بيسكوف يوم الاثنين الماضي إن الوضع على خطوط التماس “يشهد تدهورا حتميا في أوضاع وحالة القوات الأوكرانية”.

ويشير الخبراء العسكريون إلى أن ما يجري على الأرض في دونباس يمثل تمكينا عملياتيا كاملا للقوات الروسية، يهدف إلى تفكيك البنية الدفاعية الأوكرانية في المنطقة بأسرها، وهو ما سيفتح الطريق أمام الجيش الروسي نحو كراماتورسك وسلافيانسك، وسيحول تركيز قيادة النظام في كييف من الدفاع عن الأرض إلى الدفاع عن الوجود. حيث سيمثل انتصار القوات الروسية في بوكروفسك نقطة تحول نحو معادلة أمنية جديدة وشروط جديدة حتى غير تلك التي تم التفاهم بشأنها في أنكوريج، وسيصبح ما يمكن أن تعرضه وتوافق عليه وتسمح به روسيا على طاولة المفاوضات أقل بكثير مما كان مطروحا منذ أشهر قليلة، كما سيفتح ذلك شهية هنغاريا وسلوفاكيا وبولندا وربما رومانيا في المستقبل للمطالبة بالأراضي التاريخية التي يسكنها هنغاريون وسلوفاكيون وبولنديون داخل أوكرانيا.

أعتقد أن هناك من ينقل التقارير لترامب بتلك التغيرات المحورية التي تحدث على الأرض في أوروبا، وأظن أنه بصدد الخروج من أوكرانيا ومن أوروبا كلها، وما نقله له قادة أوروبا الذين هرعوا إلى واشنطن لمساندة زيلينسكي بعد لقاء أنكوريج، أغسطس الماضي، يتضح أنه امتداد لخط العبث والمزيد من العبث واللغو والآمال الوردية الكاذبة بشأن العقوبات الثانوية، والاقتصاد الروسي “المتهاوي”، و”هزيمة” القوات الروسية، و”تماسك” الجبهة الأوكرانية.

لم يعد ترامب يفكر بأوكرانيا، التي أصبحت، بالنسبة له على الأقل، خرقة بالية، تستخدمها الولايات المتحدة لإضعاف روسيا قبل المواجهة مع الصين. لا أكثر ولا أقل. ووضع الولايات المتحدة على طاولة المفاوضات يزداد سوءا يوما بعد يوم، ومع عناد النظام في كييف، على خلفية الأوهام الأوروبية العابثة، فإن التسوية الأوكرانية الحتمية تحمل مع الوقت اختفاء حتميا للدولة الأوكرانية، بعد أن اختفت بالفعل وعلى الأرض وبالورقة والقلم حدود الدولة الأوكرانية التي وافقت عليها روسيا في إسطنبول مارس 2022. أنكوريج كانت المحطة الأخيرة لوجود الدولة الأوكرانية، وقد أنذر بوتين في يونيو 2024، ولا يزال. دون أن يدرك أو يستوعب القادة الأوروبيون أو عملائهم من النظام النازي في كييف أن ما يقومون به، سيجعل إنقاذهم فيما بعد صعبا على ترامب حتى إذا أرادت الولايات المتحدة ذلك، ونحن نرى أمام أعيننا انتهاء تدريجيا للهيمنة الأمريكية، وأفولا حتميا لعالم الأحادية القطبية لصالح عالم التعددية القطبية.

إنها عملية موضوعية تاريخية، لا ولن يستطيع أحد أن يوقفها أو يؤثر على مسارها. ومهما حاولت إدارة ترامب من فرض عقوبات على “لوك أويل” و”روس نفط”، ومهما طارد البريطانيون والفرنسيون ما يسمونه “أسطول الظل”، فإن العالم الجديد قد بدأ بالفعل برسم حدوده التي تتضمن مراكز اقتصادية وأثقال سياسية أخرى حول العالم في جنوب وشرق آسيا وفي إفريقيا وفي أمريكا اللاتينية، ولن يتمكن من يتوهم أنه “شرطي العالم” أن يفعل أي شيء.

يدرك أرباب المؤسسات الصناعية الكبرى وأصحاب رؤوس الأموال العابرة للقارات أنهم يفقدون تأثيرهم على السوق العالمية، ومع كل ضغوطهم على ترامب للتأثير على روسيا والصين والهند، إلا أن النظام البنكي الغربي يضعف، وقوة الدولار ستنتهي عاجلا أو آجلا على مستوى العالم.

ومع صعوبة الوضع الراهن وتعقيده واشتباكه، أرى أن لقاء بودابست بين بوتين وترامب قد يسهم في تخفيف التوتر حول العالم، لا سيما في القارة الأوروبية التي تشهد أكبر حرب منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يرغب أحد في أن تتحول إلى حرب عالمية ثالثة.

في العام 1994 تم توقيع مذكرة الضمانات الأمنية المتعلقة بانضمام أوكرانيا إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (مذكرة بودابست)، وهي وثيقة دولية اختتمت بها مفاوضات دولية مطولة بشأن الأسلحة النووية السوفيتية المتبقية في حوزة أوكرانيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، والتي كانت من أكبر الترسانات في العالم، والسيطرة فيها على القوات النووية التكتيكية والحفاظ على الأسلحة النووية والبنى التحتية المرتبطة بها كان مكلفا للغاية بالنسبة للدولة الأوكرانية.

في حديث له مؤخرا، قال وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، إن بودابست ستكون بالطبع المكان المفضل لدى موسكو لعقد القمة الروسية الأمريكية، وذلك على خلفية تأكيد الرئيس ترامب نفسه، في اجتماعه مع رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، أنها المكان الأفضل بالنسبة لواشنطن أيضا.

لهذا، أعتقد أن بودابست، وبودابست فقط، ربما تكون المكان الأفضل لعقد قمة سلام تنقذ العالم من مصير كارثي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى