أخبار العالم

تركيا تحدّث استراتيجيتها الأمنية: التفوق الجوي والذكاء الاصطناعي في قلب العقيدة الدفاعية الجديدة

القاهرة: هاني كمال الدين  

في خطوة تعكس التحولات الجيوسياسية العميقة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية، أعلنت تركيا عن شروعها في تحديث شامل لسياسة أمنها القومي، مستجيبة بذلك لتصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران، وتصاعد حدة الصراع الروسي الأوكراني. هذا التحديث، الذي كشفت عنه صحيفة “Türkiye” المقربة من الحكومة التركية، يمثل نقلة نوعية في طريقة تعاطي أنقرة مع تحديات الأمن الإقليمي والدولي، حيث تضع القيادة التركية في صلب أولوياتها التفوق في المجال الجوي وتطوير أنظمة قتالية متقدمة مدعومة بالذكاء الاصطناعي.

دوافع التحديث: تزايد التحديات الإقليمية والدولية

يأتي قرار أنقرة بتحديث سياستها الأمنية في سياق إقليمي شديد التعقيد، إذ باتت تداعيات الصراع المفتوح بين إسرائيل وإيران، والتهديدات المتبادلة بين القوى العظمى، تفرض على الدول الفاعلة في المنطقة إعادة تقييم منظوماتها الدفاعية وخططها الاستراتيجية. تركيا، باعتبارها دولة محورية في منطقة ذات أهمية جيوسياسية بالغة، تجد نفسها مضطرة لمواكبة هذه التطورات المتسارعة، لاسيما في ظل ما يشهده المسرح الدولي من تحولات قد تعيد رسم موازين القوى في الشرق الأوسط والعالم.

وأكدت المصادر الأمنية التي تحدثت لصحيفة “Türkiye” أن التطوير الجديد في سياسة الأمن القومي التركي لا يقتصر على مجرد تحديث الأنظمة العسكرية التقليدية، بل يمتد ليشمل إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي في منظومات الدفاع والهجوم، الأمر الذي من شأنه أن يعزز قدرة الجيش التركي على التعامل مع التهديدات الناشئة والمتغيرة بشكل أكثر مرونة وفاعلية.

اجتماعات أمنية مكثفة لرسم الملامح الجديدة

شهدت المؤسسات الدفاعية والاستخباراتية والدبلوماسية التركية خلال الأسابيع الماضية سلسلة من الاجتماعات المكثفة لمراجعة وتقييم مجمل السياسات الأمنية للدولة، والخروج برؤية متكاملة للعقيدة الدفاعية في المرحلة المقبلة. وأفادت التقارير أن هذه الاجتماعات تناولت جميع السيناريوهات المحتملة، سواء المرتبطة بالتصعيد بين إسرائيل وإيران، أو انعكاسات الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، بما في ذلك التدخلات الدولية في هذين الملفين الحساسين.

وشددت المصادر المطلعة على أن التقييم الشامل الذي تم خلال هذه الاجتماعات راعى كل أبعاد الأمن القومي التركي، بدءاً من الأمن الداخلي وصولاً إلى مواجهة التهديدات العابرة للحدود، مع التركيز على تعزيز الجاهزية الدفاعية لمواجهة أية تطورات مفاجئة قد تطرأ على الساحة الدولية.

التفوق الجوي في قلب الاستراتيجية التركية

أحد المحاور الجوهرية في سياسة تركيا الأمنية المحدثة هو السعي لتحقيق التفوق الجوي النوعي، إذ تدرك أنقرة أن السيطرة على المجال الجوي تمثل عنصراً حاسماً في أي مواجهة عسكرية محتملة في المستقبل. وقد بات هذا التوجه أكثر إلحاحاً في ظل ما يشهده الشرق الأوسط من تصاعد في حدة الضربات الجوية الإسرائيلية ضد أهداف إيرانية في سوريا ولبنان، وفي ظل تهديدات إيران المتزايدة بالرد على هذه الهجمات بضربات صاروخية أو عبر وكلائها الإقليميين.

ويبدو أن تركيا قد أدركت أن أي حرب شاملة في المنطقة قد تتخذ في البداية طابعاً جوياً وصاروخياً مكثفاً قبل أن تتحول إلى مواجهة برية شاملة، وهو ما يتطلب تطوير قدراتها في هذا المجال إلى مستويات غير مسبوقة، خصوصاً مع التقدم الهائل الذي تحققه كل من إسرائيل وإيران في مجالات الدفاع الجوي والصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة.

الذكاء الاصطناعي يدخل ميدان المعركة

في موازاة هذا التحديث الجوي، تعكف أنقرة أيضاً على إدماج تقنيات الذكاء الاصطناعي بشكل أوسع في بنيتها الدفاعية، حيث بدأت فعلياً في تطوير منصات قتالية يمكنها العمل على مسافات بعيدة وبتنسيق ذاتي دون الحاجة إلى تدخل بشري مباشر، وهو ما يعزز من قدرتها على إدارة المعارك المعقدة بشكل أكثر دقة وسرعة.

ووفقاً لما نقلته صحيفة “Türkiye”، فإن تطوير هذه الأنظمة الذكية بات ضرورة ملحة في ضوء سرعة تغير طبيعة الحروب الحديثة التي باتت تعتمد على تقنيات الحرب السيبرانية والطائرات بدون طيار والهجمات عبر الفضاء الإلكتروني بشكل متزايد، ما يستدعي امتلاك أنظمة قادرة على رصد التهديدات والتفاعل معها لحظياً دون تأخير قد يكلف البلاد ثمناً باهظاً.

حماية القيادة والبنية التحتية ضمن الأولويات

لا يقتصر تحديث سياسة الأمن القومي التركي على المجال العسكري المباشر فحسب، بل يشمل أيضاً تعزيز حماية القيادة السياسية العليا للدولة، وضمان أمن البنية التحتية الحيوية، وحماية المنشآت الاستراتيجية الحساسة من أي هجمات محتملة سواء من قوى خارجية أو من جماعات إرهابية قد تستغل أجواء الفوضى أو الانشغال بالملفات الخارجية لشن هجمات نوعية على الداخل التركي.

في هذا الإطار، تعمل أنقرة على تعزيز منظومات الحماية الإلكترونية لمنشآتها النووية ومصانعها الدفاعية، فضلاً عن تطوير شبكات الإنذار المبكر في محيط منشآتها الحيوية الواقعة في مواقع جغرافية حساسة. وتشمل هذه الإجراءات كذلك مراجعة خطط الإجلاء السريع للقيادة السياسية والعسكرية في حال التعرض لأي تهديد أمني داهم.

تنسيق تركي أمريكي بشأن الملف الإيراني

وفي سياق موازٍ لهذا الحراك الدفاعي التركي، كشفت تقارير إعلامية عن تحركات دبلوماسية تجري خلف الكواليس بين أنقرة وواشنطن بهدف إيجاد مخرج للأزمة المتفاقمة بين إيران والولايات المتحدة على خلفية برنامج طهران النووي. ووفقاً لما أفادت به وسائل إعلام تركية، فإن الرئيس رجب طيب أردوغان طرح على نظيره الأمريكي دونالد ترامب خلال اتصال هاتفي هذا الأسبوع مقترحاً بإعادة إحياء المفاوضات النووية مع إيران، في مسعى لاحتواء التصعيد ومنع انزلاق المنطقة نحو مواجهة عسكرية واسعة النطاق.

وتعكس هذه المبادرة التركية رغبة أنقرة في لعب دور الوسيط النشط بين طهران وواشنطن، مستغلة موقعها الجيوسياسي الفريد وعلاقاتها المتوازنة مع الطرفين، بما يضمن حماية مصالحها الحيوية في المنطقة ويدرأ عنها مخاطر الانجرار إلى صراعات مدمرة لا تصب في مصلحة أحد.

رسائل إيرانية تحذيرية إلى دول الخليج

بالتزامن مع هذه التحركات التركية، أفادت مصادر دبلوماسية بأن إيران وجهت في الأيام الأخيرة رسائل تحذيرية مباشرة إلى دولة قطر، محذرة إياها من احتمال تعرض القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة على أراضيها لضربات صاروخية في حال تصاعدت المواجهة مع الولايات المتحدة أو مع إسرائيل. هذا التصعيد الإيراني يثير المزيد من المخاوف لدى تركيا من تدحرج الأزمة إلى حرب إقليمية شاملة قد تعصف باستقرار الخليج برمته، وتنعكس تداعياتها سلباً على الأمن القومي التركي أيضاً.

قراءة في أبعاد التحول التركي

يمثل قرار تركيا بتحديث سياستها الأمنية في هذا التوقيت إشارة واضحة إلى أن أنقرة تعي خطورة المرحلة الراهنة وما قد تحمله من مفاجآت على كافة الأصعدة. فالتغيرات الجارية في موازين القوى الدولية بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، واحتدام الصراع بين إسرائيل وإيران، وزيادة احتمالات الانفجار العسكري في الخليج، كلها عوامل تضع الأمن القومي التركي أمام تحديات لم يعهدها من قبل في تاريخه الحديث.

كما أن دخول الذكاء الاصطناعي في صلب المعادلات العسكرية يعكس إدراك أنقرة العميق لطبيعة التحولات الحربية في القرن الحادي والعشرين، حيث لم يعد التفوق العسكري مرهوناً فقط بعدد الجنود والدبابات، بل أصبح مرهوناً أكثر بالقدرة على امتلاك أنظمة ذكية قادرة على تحليل المعطيات الميدانية في أجزاء من الثانية واتخاذ قرارات دقيقة دون تدخل بشري قد يتأثر بالضغوط النفسية خلال المعارك.

تركيا على أعتاب مرحلة جديدة من العقيدة الدفاعية

لا شك أن عملية تحديث سياسة الأمن القومي التركي تحمل في طياتها أبعاداً استراتيجية عميقة تتجاوز الاعتبارات العسكرية الصرفة، حيث ترتبط أيضاً بتطلعات أنقرة لتعزيز مكانتها كقوة إقليمية وازنة في خريطة التحالفات الدولية المتغيرة. فبعد سنوات من التوتر مع واشنطن وأوروبا، تحاول تركيا اليوم إعادة تموضع نفسها كلاعب محوري قادر على التوسط بين القوى الكبرى والاستفادة من موقعها الجغرافي كجسر بين الشرق والغرب.

وتراهن القيادة التركية على أن تطوير القدرات العسكرية النوعية سيمكنها من الدخول إلى طاولة المفاوضات الدولية من موقع قوة، لاسيما في ملفات الطاقة شرق المتوسط، والنزاع في القوقاز، وأزمات سوريا والعراق، فضلاً عن ملف العلاقات التركية الخليجية المتشابك بالملف الإيراني.

تركيا في قلب عاصفة إقليمية ودولية

في ظل هذه المعطيات المعقدة، يبدو أن تركيا مقبلة على مرحلة جديدة من عقيدتها الدفاعية تحت عنوان “تركيا تحدّث سياستها الأمنية”، عنوان يعكس ليس فقط تحديث المنظومات الدفاعية، بل يؤشر إلى إعادة صياغة شاملة لمفاهيم الأمن القومي التركي في بيئة جيوسياسية متغيرة ومتقلبة.

ومع تصاعد احتمالات المواجهات الكبرى في المنطقة، يبقى رهان أنقرة معقوداً على قدرتها في تحقيق التوازن الصعب بين تطوير قدراتها العسكرية النوعية، والاحتفاظ بدورها كوسيط إقليمي قادر على منع اندلاع الحروب المفتوحة التي ستطال نيرانها الجميع دون استثناء.

للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى