تقارير

يعقوب الحلو: عندما تطرق الحرب باب الوطن – السودان

يعقوب الحلو: عندما تطرق الحرب باب الوطن – السودان     

الحلو الذي يشغل حاليا منصب المدير الإقليمي لأفريقيا في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق التنمية، عمل مع الأمم المتحدة في أكثر من 16 موقعا، من ليبيريا وليبيا وسوريا والصومال وأفغانستان.

تحدث السيد يعقوب الحلو مع ميليسا فليمنِغ وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للتواصل العالمي في برنامجها “Awake at night” الذي يتحدث عن قضايا تؤرق مسؤولين أممين وعاملين في المجال الإنساني. يبث البرنامج – الحائز على الجوائز – على موقع الأمم المتحدة الإلكتروني.

في هذه الحلقة، يتأمل بعمق في حجم المعاناة الإنسانية، ويستعرض مسيرته المهنية الحافلة مع الأمم المتحدة، ويؤكد أن كل شعب يستحق فرصة لبناء مستقبله. 

نستعرض في هذا المقال مقتطفات من الحوار بلسان السيد يعقوب الحلو.

لم أر حربا شبيهة للحرب السودانية

قضيت ما يقارب 36 عاما من العمل مع الأمم المتحدة معظمها كانت في مناطق نزاع بالفعل. لم أرَ من قبل شيئا مثلما يحدث في السودان. 

لم أرَ شيئا كهذا بسبب السرعة والنطاق الذي أحدثت به الأضرار. أضرار بشرية ومادية. وأضرار لبلد كان يعيش لحظة أمل حقيقية ليتخلى عن أغلال الماضي وينطلق بعد ثورة 2019. لكنه الآن بلد على شفا مزيد من التصعيد، والأسوأ من ذلك، الانقسامات. 

هناك 14 مليون شخص نازح قسريا الآن، منهم مليونا شخص اضطروا لعبور الحدود ليصبحوا لاجئين في البلدان المجاورة. ولكن إلى جانب ذلك، هناك الآن سودانيون في كل ركن من أركان العالم حرفيا. هذه ليست حربنا. هذه ليست حربا سودانية. السودان هو مسرح لأجندة تتم تسويتها. ونحن الشعب السوداني نواصل دفع الثمن كل يوم.

ومن هذا المنبر هنا، أريد أن أغتنم الفرصة لأدعو السودانيين إلى أن نضع السودان أولا، وألا نأخذ أفكارا من الخارج، أفكارا لا علاقة لها إطلاقا بالاستقرار أو الازدهار أو نجاح فكرة السودان. لأن الأجندة لا تسير في هذا الاتجاه. الأجندة هي التدمير والاستغلال. 

السودان بلد غني للغاية. وتستمر ثرواته في التلاشي بينما يُجبر شعب السودان على مغادرة منازلهم.

أخشى أن يستمر نزيف القتل والموت ما لم يضع المجتمع الدولي السودان في بؤرة اهتمامه. رغم أن هناك أصواتا لقادة مثل الأمين العام للأمم المتحدة، وغيره من المسؤولين الأمميين الذين يتحدثون عن السودان ويعملون فيه، إلا أن السودان، للأسف، غائب عن اهتمام الإعلام العالمي. 

لقد طغت عليه صراعات أخرى لا تقل فداحةً، كالحرب في أوكرانيا وغزة. لكنني أعتقد أن حجم الكارثة التي تتكشف في السودان يفوق الأضرار التي لحقت بتلك المنطقتين.

مبنى مفوضية العون الإنساني السابق في الخرطوم، السودان.

عملت من أجل المشردين طوال حياتي

لا نزال نشعر بمرارة التشرد. وقد كرستُ حياتي لخدمة المشردين. هذه التجربة لا تتركك أبدا، فهي تعود وتلامس عمق مشاعرك. حتى ونحن نجوب العالم في سبيل رسالتنا لخدمة من أُجبروا على الفرار، يبقى هذا الشعور حاضرا. إنه يؤثر فيك، ولكنه في الوقت نفسه يمنحك الشجاعة والإلهام للمضي قدما. 

أعلم أن هناك من يرى أن المحتاجين ضعفاء وليس لديهم ما يقدمونه. ولكن الحقيقة هي أن كل ما نستجمعه من قوة وشجاعة يأتي من هؤلاء الأشخاص أنفسهم، الذين نُرسَل لدعمهم ومساعدتهم في تجاوز محنتهم. 

محنة لم يتسببوا بها، بل كانت نتيجة أفعال مجموعة قليلة من أصحاب الامتياز والجشع الذين لا يتورعون عن التسبب في المعاناة الإنسانية. والسودان، للأسف، ليس استثناءً من هذه القاعدة.

الأمين العام يعين المسؤول الأممي يعقوب الحلو، من السودان، نائبا لممثله الخاص في ليبيا، ومنسقا مقيما للأمم المتحدة وللشؤون الإنسانية في البلاد.

UN Photo/Anne-Laure Lechat

لماذا يحدث هذا؟ أين العقل؟

السودان هو موطننا. ومفهوم العائلة في السودان يتجاوز بكثير نطاق الأهل المباشرين، ويشمل أعدادا هائلة من الناس. لهذا السبب، لا يزال الكثير من أهلنا عالقين في السودان، ويستمرون في النزوح بحسب تغير خريطة الحرب.

العديد من السودانيين الآخرين الذين نشأنا معهم أو ذهبنا إلى المدرسة معهم أو عملنا معهم لا يزالون في السودان. وكلما تمعنت أكثر في الأمر، تساءلت: لماذا يحدث هذا؟ أين العقل؟ الأرواح البشرية التي تُفقد لا يمكن تعويضها. وهذا ثمن باهظ للغاية. 

ولكن الضرر المادي الذي أُلحق بالبنية التحتية في السودان، وصناعاته وطرقه وجسوره وأعماله. إنه تدمير عشوائي وغير متناسب للحياة، وأيضا لبنية السودان التحتية.

إنه أمر مدمّر يتجاوز الوصف، وأعتقد وأؤمن أن الكلمات التي أعبر بها عن الوضع لا تعكس كل ما يحدث في السودان، لأن الوضع يفوق قدرة كلماتي على الوصف. إنها فاجعة.

من الأرشيف: ستيفان دي ميستورا، المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا (وسط)، يحيط به يان إيغلاند، كبير مستشاريه الخاصين (يسار)، ويعقوب الحلو، المنسق المقيم للأمم المتحدة/منسق الشؤون الإنسانية في سوريا، في مؤتمر صحفي في جنيف.

UN Photo/Anne-Laure Lechat

رحلة محفوفة بالمخاطر من الخرطوم

لدينا الكثير من الأقارب الذين اضطروا لمغادرة الخرطوم. معظم العائلة كانت في الخرطوم. نحن في الأصل من منطقة النيل الأبيض جنوب الخرطوم. 

وأنا من عائلة من المزارعين على ضفاف النيل الأبيض، كان جدي يملك مشروعا زراعيا كبيرا، وقد تحول اليوم إلى مأوى للمشردين. هؤلاء هم أشخاص لا يدعمون أنفسهم فقط والآخرين، بل كانوا يديرون أعمالهم الخاصة، أو كانوا موظفين حكوميين أو أساتذة جامعيين، ولكنهم مثل أي شخص آخر، نزحوا قسريا.

عندما بدأت الحرب في الخرطوم في 15 أبريل 2023، كان اثنان من أبنائي في الخرطوم. واحدة كانت تعمل في الخرطوم بعد أن أنهت دراستها في الخارج وعادت إلى الوطن للعمل. والآخر كان في المدرسة.

ابني الأصغر، علي، الذي سمّيته على اسم والدي، كان يذهب إلى المدرسة في الخرطوم. وبالطبع، بدأت الحرب. كانوا عالقين في المنطقة التي عاشوا فيها، حيث عشنا، لمدة أسبوعين تقريبا بعد الحرب. وفي النهاية، اضطررنا إلى إجلائهم.

وكانت عملية الإجلاء مرهقة للغاية، لأنها لم تكن تشملهم وحدهما. كانت مع أجدادهم والعديد من أفراد العائلة الآخرين. كانوا يستقلون حافلة تضم 55 فردا من العائلة المباشرة. 

وكنت أنا في أديس أبابا. لذا، كان يتعين علي إدارة هذه العملية عن بعد، وكانت مرهقة للغاية. بينما كانوا يغادرون، قلت لأولادي: ‘اكتبوا. ما ترونه، اكتبوه، لأنه سيساعدكم على عدم كبت مشاعركم. وربما يوما ما ستعودون وتستفيدون من هذه الذكريات والتفاصيل’.

استغرقت رحلتهم حوالي 50 ساعة. هذه رحلة تستغرق 12 ساعة عادة من الخرطوم إلى الحدود المصرية. عبروا الحدود أخيرا إلى الجانب المصري. على الفور قمت بترتيبات أوضاع أبنائي ليأتوا إلى أديس أبابا.

وكنت أتحدث معهم، وكانوا متعبين. سألت ابنتي، رزان، ‘وماذا فعلتِ؟’ قالت، ‘لقد تحدثت بالفعل مع الكثير من الناس في الطريق وعلى الحدود. وسأبدأ مدونة.’ ولدى رزان الآن منصة على الإنترنت تسمى “أصوات الوطن” (The Voices of the Homeland)، حيث تكتب كل القصص. إنها تخلق فرصا للتفاعل والعلاج، وربما حتى أن يتحدث الناس مع بعضهم البعض ويساعدوا بعضهم البعض.

مائدة طعامنا كانت برلمانا

لا أعتقد أن هناك منزلا في الخرطوم قد سلم. ليس في الخرطوم، ولا في أم درمان القديمة حيث يوجد منزل جدي وحيث تأتي العائلة، وحيث نشأت أيضا في مراحل معينة من حياتي. 

هذه مناطق كانت نقاطا ساخنة ومناطق قتال شديدة الكثافة. لذا، الافتراض هو أن كل شيء قد تحطم، كل ما عملت عليه هذه العائلة لأجيال.

أنا من عائلة تمتهن الزراعة، ولكنها عائلة منخرطة بقوة في السياسة. قادت التمرد ضد الاحتلال البريطاني في القرن التاسع عشر. أنا لا أشارك في السياسة السودانية، لكن عائلتي تفعل ذلك بقوة، وطاولة طعامنا بمثابة برلمان.

من الأرشيف: منظر من العاصمة السودانية الخرطوم قبل الحرب.

السودانيون يديرون أكبر عملية إنسانية

أقول دائما إن أفريقيا تشغلني في النهار، والسودان يمنعني من النوم ليلا. السودانيون الآن موجودون في كل المناطق الزمنية، أناس تعرفهم، أناس وجدوا أنفسهم فجأة في المجهول. أبقى على تواصل مع الناس، والناس يتواصلون معي أيضا. لا يمكنك أن تتخلى عنهم. هذا جزء من الثقافة التي نشأت عليها، ومن المؤلم أن ترى الناس يطلبون المساعدة الآن. 

كثير من الأشخاص الذين تراهم نازحين في أنحاء البلاد اليوم يستمرون في استضافة أناس لا يكادون يعرفونهم، أو لم يقابلوهم من قبل، لكن الأبواب مفتوحة. هذا بلد في حالة حرب، لكن الكرم لا يتوقف. ولهذا السبب أعتقد أن أكبر عملية إنسانية في السودان اليوم يديرها السودانيون أنفسهم، بدافع الكرم وحسن الضيافة البسيط.

أمل في قلب المأساة

أستمد أملي من منابع متعددة. أولها أن لكل بداية نهاية، وهذا ينطبق على الحروب أيضا. لقد شهدنا هذا في العديد من الأماكن الأخرى، ورأينا كيف أن الأطراف التي تغذي هذه الحرب ستستوعب عاجلا أم آجلا أن السلاح ليس هو الحل. عليهم أن يجلسوا الآن لإنقاذ ما تبقى من السودان. إنه وطن يمتلك كل ما يؤهله للعودة كأمة عظيمة مرة أخرى، وهذا يبدأ بشعبه.

يأتي أملي أيضا من الإنسان السوداني البسيط؛ من الشعب المحب للسلام، الدافئ، والمضياف، الذي يُواجَه اليوم بمحنة قاسية، لكنه شعب يتميز بالصلابة. إنهم أصحاب إيمان راسخ يدركون أن المحن لا تدوم. 

وثالثا، بقدر ما نوقف تدفق الدعم والإمداد للأطراف المتنازعة في السودان، بقدر ما نُعجّل في الوصول إلى اللحظة التي يجلس فيها الجميع إلى طاولة الحوار.

للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر

مصدر المعلومات والصور : un

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى