أخبار العالم

تقليص وشيك في القوات الأمريكية في أوروبا: مخاوف أوروبية واستعدادات حذرة

القاهرة: هاني كمال الدين  

في خطوة غير مسبوقة تحمل بين طياتها تحولات استراتيجية كبرى، تبحث الإدارة الأمريكية بشكل جدي تقليص وجود القوات الأمريكية في أوروبا بنسبة تصل إلى 30%، وهو ما قد يُحدث اهتزازًا كبيرًا في منظومة الأمن الأوروبية التي تعتمد بشكل جوهري على الغطاء الدفاعي الأمريكي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

هذا التطور لم يعد مجرد تكهنات أو تحليلات استراتيجية، بل أصبح حديثًا حقيقيًا داخل أروقة الناتو، كما نقلت صحيفة بوليتيكو الأمريكية عن مسؤول بارز في الحلف طلب عدم الكشف عن هويته، مؤكدًا أن القرار قيد الدراسة الجدية في واشنطن، دون أن يُتخذ بعد بشكل رسمي.


انسحاب تدريجي أم تحول في العقيدة؟

وفقًا للتسريبات التي حصلت عليها الصحيفة، فإن الخيار المطروح على طاولة الإدارة الأمريكية هو تقليص عدد القوات الأمريكية في أوروبا بنسبة تصل إلى الثلث، ما يعني أن آلاف الجنود الأمريكيين قد يغادرون القواعد العسكرية المنتشرة في ألمانيا وبولندا ودول البلطيق وإيطاليا، في تحول يُعيد رسم ملامح التوازن العسكري في القارة.

هذا التحول لا يأتي بمعزل عن الواقع الاستراتيجي العالمي الذي تواجهه واشنطن، إذ تزداد الضغوط الداخلية عليها لتقليل الإنفاق الدفاعي الخارجي، وسط أولويات اقتصادية ملحة، وتنامي التحديات في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، لا سيما التنافس مع الصين.


قلق أوروبي متصاعد من تقليص القوات الأمريكية

لم يمر هذا الطرح الأمريكي دون ردود أفعال قوية داخل أوروبا. فقد عبّر ينس شبان، رئيس كتلة الاتحاد الديمقراطي المسيحي في البرلمان الألماني، عن مخاوفه من انسحاب مفاجئ للقوات الأمريكية، مشيرًا إلى أن الأوروبيين “لا يملكون أي ضمانات بأن القوات الأمريكية ستبقى على الأراضي الأوروبية”.

وفي تصريحات مثيرة للجدل، شدد شبان على ضرورة أن تسعى ألمانيا وشركاؤها الأوروبيون إلى تعزيز “الردع الأمريكي”، لأن القوات الأمريكية في أوروبا تمثل عنصرًا أساسيًا في منع التهديدات الروسية، ولولا وجودها لتغيرت قواعد اللعبة الأمنية جذريًا.


استعدادات داخل الناتو لاحتمال الانسحاب

وفقًا لموقع Euractiv الأوروبي، بدأت بالفعل بعض الدول الأعضاء في حلف الناتو تقييم سيناريوهات تقليص التواجد العسكري الأمريكي. وذكر الموقع، في تقرير نُشر يوم 3 يوليو، أن عدداً من الدول الأوروبية أطلقت مراجعات أمنية داخلية للتعامل مع هذا السيناريو، خصوصًا تلك التي تقع على خط التماس مع روسيا مثل بولندا ودول البلطيق.

وتُعد ألمانيا المتأثرة الأكبر، نظرًا لكونها تضم أكبر عدد من القوات الأمريكية في أوروبا، وبالأخص القواعد الجوية في رامشتاين، التي تُستخدم كمركز لوجستي حيوي للعمليات الأمريكية في الشرق الأوسط وإفريقيا.


خلفيات القرار الأمريكي: صراع الأولويات

تحوُّل الولايات المتحدة نحو تقليص التزاماتها الخارجية ليس جديدًا، بل بدأ منذ عهد دونالد ترامب، الذي هدد مرارًا بسحب قوات بلاده من أوروبا إذا لم تزد الدول الأوروبية إنفاقها الدفاعي. ومع أن إدارة بايدن حاولت إعادة الثقة بالحلفاء، فإن التحديات الداخلية فرضت واقعًا جديدًا.

التكلفة الباهظة لوجود القوات الأمريكية في أوروبا، إلى جانب الانقسام السياسي الداخلي الأمريكي وتراجع شعبية التدخلات الخارجية، كلها عوامل دفعت نحو مراجعة العقيدة الدفاعية، مع التوجه نحو تعزيز التمركز العسكري في المحيط الهادئ لمواجهة النفوذ الصيني.


تأثير الانسحاب على البنية الدفاعية الأوروبية

يشير محللون إلى أن الانسحاب الأمريكي، في حال تنفيذه، سيكون له تبعات كبيرة على بنية الردع العسكري الأوروبية. فحتى الآن، لم تتمكن أوروبا من إنشاء قوة ردع مستقلة فعالة تعوض غياب القوات الأمريكية في أوروبا. ويبدو أن مبادرة الدفاع الأوروبي المشترك لا تزال قيد التخطيط أكثر من كونها واقعًا فعليًا.

القلق يكمن في احتمالية أن يؤدي تقليص التواجد الأمريكي إلى تغوُّل روسيا في محيطها الإقليمي، خصوصًا في ظل الحرب الأوكرانية، وعدم التزام موسكو بأي تفاهمات أمنية مع الغرب.


عواقب استراتيجية وسياسية

لن يكون لهذا القرار بعدٌ عسكري فحسب، بل ستكون له أيضًا أبعاد سياسية على علاقة واشنطن بحلفائها في الناتو. فالتواجد الأمريكي يُعتبر منذ عقود الضامن الحقيقي للالتزامات الدفاعية الجماعية ضمن المادة الخامسة من ميثاق الحلف.

وإن تقليص القوات الأمريكية في أوروبا قد يُفسر على أنه تراجع أمريكي عن هذه الالتزامات، مما قد يفتح الباب أمام تحولات جيوسياسية كبرى، مثل تقارب بعض الدول مع روسيا، أو حتى تطوير سياسات دفاعية وطنية على حساب التضامن الجماعي داخل الناتو.


ألمانيا في قلب المعادلة

بصفتها الدولة المستضيفة لأكبر عدد من الجنود الأمريكيين في أوروبا، تجد ألمانيا نفسها في موقف حساس. فبينما تؤكد حكومة برلين على أهمية الشراكة مع واشنطن، تواجه في ذات الوقت مطالب داخلية وأوروبية لتعزيز القدرات الدفاعية الذاتية.

وتُشير تقارير دفاعية ألمانية إلى أن برلين بدأت فعليًا في مراجعة وضع قواعدها العسكرية، ودراسة إمكانية تعزيز الإنفاق الدفاعي لمواجهة احتمال تراجع الدعم الأمريكي.


الناتو أمام امتحان البقاء

تتفق معظم التحليلات على أن قرار تقليص القوات الأمريكية في أوروبا سيكون اختبارًا حقيقيًا لمدى تماسك حلف الناتو، وقدرته على التكيف مع واقع جديد تكون فيه الولايات المتحدة أقل التزامًا بالقيادة المباشرة.

ورغم أن بعض دول الحلف تمتلك جيوشًا قوية نسبيًا، إلا أن غياب التنسيق الموحد، والاعتماد المفرط على القدرات الأمريكية، قد يُضعف فعالية الحلف في التعامل مع الأزمات المقبلة.

للمزيد : تابع خليجيون 24 ، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فيسبوك وتويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى