قراءة في الأعمال الإبداعية للفيلسوف الكازاخي “آباي”… بعد 180 عاماً من ميلاده

بقلم د. عبد الرحيم إبراهيم عبد الواحد
أستانا – دبي: من السهوب المترامية الأطراف في القرن التاسع عشر إلى المدن النابضة بالحياة في كازاخستان الحديثة، ظل اسم أباي قونانبايولي يتردد عبر الأجيال. شاعر، وفيلسوف، ومعلّم، ومرشد أخلاقي، حملت كلمات أباي نبض الأمة وحكمة الإنسانية. وفي عام 2025، لا تكتفي كازاخستان بإحياء الذكرى الـ 180 لميلاده، بل تعيد إشعال روحه عبر الموسيقى والشعر والذاكرة المشتركة. تمتد الاحتفالات من مسقط رأسه في مدينة سيمي إلى المراكز الثقافية حول العالم، مذكّرةً بأن رؤيته للتنوير والرحمة والمسؤولية لا تزال ملحّة كما كانت قبل أكثر من قرن.
لقد مرّ 180 عامًا على ولادة آباي قونانبايولي، الشاعر والفيلسوف والمربي الكازاخستاني البارز، الذي لا تزال أفكاره تتردد أصداؤها عبر الأجيال. تُقدّم أعمال آباي، التي تشمل الشعر والنثر والتأملات الفلسفية، رؤىً عميقة في الأخلاق والثقافة والطبيعة البشرية. يسعى هذا المنظور النقدي إلى استكشاف الأهمية الدائمة لإرثه الإبداعي، ودراسة كيف لا تزال أفكاره الأخلاقية والفلسفية والروحية تؤثر في المجتمع الكازاخستاني والعالم الفكري الأوسع بعد قرابة قرنين من ولادته.
وهنا يمكننا القول بأن إرث الفيلسوف آباي ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو بوصلة أخلاقية ورمز وطني يوحّد الأمة وجسر يربط بين التراث الكازاخي والثقافة العالمية، ويعكس حجم احتفالات هذا العام دوره المستمر في تشكيل هوية البلاد وإلهام الشعوب خارج حدودها.
إشادة رئاسية
في كلمة خاصة للمشاركين في الاحتفالات التذكارية، وصف الرئيس قاسم جومارت توكاييف أباي بأنه “شخصية شامخة في الثقافة العالمية وأب الأدب الكازاخي الحديث”. وأكد الرئيس أن شعر أباي ورؤاه الفلسفية ودعوته للتعليم والاجتهاد والمسؤولية المدنية ما زالت ضرورية لترسيخ قيم كازاخستان المعاصرة.
وأشار توكاييف إلى أن إرث أباي يتجاوز الحدود، ويقدّم إرشادًا خالدًا للبشرية، داعيًا إلى مزيد من البحث والترويج لأعماله، ولافتًا إلى أن هذه الاحتفالات تقام على أرض مقدسة أنجبت شخصيات كازاخية عظيمة أخرى مثل شاكرم قدايبرغن ومختار أوئزوف.
أباي – شاعر وفيلسوف ومربٍ ورمز وطني
وُلد أباي عام 1845، وكان أكثر من مجرد شاعر؛ فقد كان ملحنًا ومفكرًا ومعلّمًا ومصلحًا، عبّرت أعماله عن واقع الحياة الكازاخية وقدّمت رؤية للتقدم عبر التعليم والإثراء الثقافي والمعرفة العلمية. وسعى في كتاباته إلى تحقيق التوازن بين التقاليد الكازاخية والأفكار العالمية الجديدة.
خلال حياته، أنتج أباي نحو 170 قصيدة أصلية، و56 ترجمة أدبية، ومجموعته النثرية الشهيرة “كلمات التنوير” (قارا سوزدر). كما أدخل أشكالاً وأوزانًا شعرية جديدة إلى الأدب الكازاخي، تاركًا إرثًا أساسيًا لفهم الأسس الثقافية والأخلاقية للأمة.
قراءة في أعمال الفيلسوف الكازاخي
وهنا يمكن القول بأن أكثر الأعمال استقطابا واهتماما لي شخصيا كانت كتاب “الأقوال”، الذي يعتبر من ضمن أعظم الإبداعات الفكرية والأدبية، حيث عرض فيه الشاعر آباي آراءه الأخلاقية والفلسفية والإسلامية، وذلك من خلال ٤٥ قولا ورأيا ونصيحة وموقفا تجاه كافة القضايا الحياتية التي تهم الكازاخ وغيرهم.
وهناك ايضا موسوعة “أعمال آباي؛ و“طريق آباي” …. – ونؤكد على حقيقة ثابتة مفادها إنه ومن ضمن أسباب استمرارية اعمال وأشعار آباي، إنه حمل في طياته أكثر المضامين الإنسانية والاجتماعية والقومية روعة وجمالا. ولذلك وكسبا للوقت الضيق في هذه الندوة، يمكن استخلاص العديد من المبادئ التي أرسى قواعدها هذا الشاعر آباي:
· تعزيز وإبراز المفاهيم الخاصة بثقافة سكان السهوب الكازاخية. – امتداد ابداعات آباي إلى فضاءات أوسع في عموم دول العالم
· الحث على التمسك بالقيم الأصيلة وتقبل الحق ورفض الباطل بكل أشكاله، مما ساهم في تكريس وإبراز المفاهيم الخاصة بثقافة الإنسان في السهوب الكازاخية.
· المطالبة باتباع الصفات الحميدة للمسلمين الأوائل، والمحافظة على العادات والتقاليد المتوارثة جيلاً بعد جيل. – إبداعات آباي تخدم قضايا نبيلة سامية، ومنها التقارب بين الشعوب والحضارات
· شرح آباي وبإسهاب، كيف يبني الانسان نفسه ويخدم مجتمعة
· نهض آباي بوظائف كثيرة، منها الدفاع عن القيم الوطنية ومقومات الهوية الكازاخية من لغة ودين وتاريخ وعادات وتقاليد
· بدت أشعار آباي في صورة الحارس الأمين للذاكرة الجمعية والمؤتمن على التراث الثقافي الكازاخي
· ساهمت أعماله في ترميم تصدع العلاقة الاجتماعية في بلاده وسيادة النزعة الاستقلالية والنضالية ضد الاستعمار
· عمل على تطويع مضمون القصيدة لخدمة قضايا النهوض بالمجتمع والعرق الكازاخي
· أدخل اشكالا لم تكن معروفة سابقا في الشعر الكازاخي، وأرسى سبلا جديدة للاستفادة الواسعة من امكانيات اللغة الكازاخية الأم
· امتازت قصائد آباي بالتنوع في الصياغات والموضوعات. – تميز شعر آباي بالبساطة، والسهل الممتنع إلى جانب روعة الأسلوب الفني الذي يجسد المهارة والموهبة الشعرية الأصلية
· تحلى آباي الملحن لأشعاره وأشعار غيره، بذوق موسيقي رفيع واطلاع واسع على الموسيقى الشعبية
· دائم الدعوة إلى التخلص من الذنوب والعيوب والموبقات التي تحط من كرامة الإنسان
· دعوة جميع الكازاخ وغيرهم إلى التسامي والارتقاء الروحي في المقام الأول
· الاعتماد الاساسي على المعرفة والفنون والاستفادة من ثقافات الشعوب الأخرى
· حددت أعمال آباي القيم التي يحملها: التعليم والمعرفة، الاحترام، الحقيقة والصدق، والسلام والمحبة
· أشعار آباي تعالج مجموعة واسعة من القضايا الحياتية، من الطبيعة والحب إلى الحياة والموت والعيوب الشخصية للأمة
· آباي أول من ابتكر فكرة تنظيم أبيات من القصائد المتعلقة بالفصول الأربعة: “الصيف”، “الخريف”، “الشتاء”، و “الربيع. “
· نظم أبيات شعرية تسخر من الانتهازية وتوجه اللوم نحو المسؤولين الأقوياء، مما ساهم في تعزيز مكانة قصائده السردية الطويلة مثل “إسكندر”، المكرسة للإسكندر الأكبر، و “مزجود” و”أسطورة عظيم”، وجسدت سمعته المتميزة كشاعر بارز للشعب الكازاخستاني.
الاعتراف خارج كازاخستان
امتد تأثير أباي إلى ما وراء حدود وطنه، حيث تُرجمت أعماله إلى 116 لغة، وقورنت بكتابات يوهان غوته والرؤية الأخلاقية للمهاتما غاندي. وفي عام 1995، بمناسبة الذكرى الـ 150 لميلاده، شهد العالم إصدارًا واسعًا من منشورات تحت رعاية اليونسكو.
توجد اليوم نصب تذكارية لآباي في مدن كبرى حول العالم – من موسكو وباريس وأنقرة إلى القاهرة وسيؤول وبرلين وحتى في مقر الأمم المتحدة بجنيف. وتحمل شوارع وحدائق اسمه، كما تُنشأ معالم ثقافية تكريمًا له.
وكان أحد أهم عوامل تعزيز سمعته العالمية هو رواية مختار أوئزوف الملحمية “طريق أباي” (1942–1956) في أربع مجلدات، التي خلدت حياته ورحلة الشعب الكازاخي الروحية. وقد تُرجمت الرواية إلى أكثر من 100 لغة، وما زالت تعد حجر الأساس في الأدب الكازاخي.
احتفالات على مستوى الوطن
في مختلف أنحاء كازاخستان، تم إحياء يوم آباي ببرامج ثقافية وتعليمية وفنية. وفي أستانا، بدأت الاحتفالات بوضع الزهور عند نصب آباي ، تلاها “حفل الدومبرا” الذي قُدمت فيه أشهر أغانيه على الآلة الكازاخية التقليدية.
وشارك خمسة آلاف تلميذ في أداء أعمال أباي، فيما تُقام معارض مثل “عالم آباي” و”الأقارب والأحفاد المضطهدون لآباي قونانبایيف” في المتاحف والمراكز الثقافية. كما استضافت المكتبات العامة والمساحات المجتمعية دروسًا مفتوحة وقراءات شعرية وحوارات حول أهمية حكمته في الحاضر.
وفي شيمكنت، جري التخطيط لإنشاء مركز ثقافي وتعليمي كبير مخصص لإرث أباي.
سيمي – قلب الاحتفالات
في مسقط رأسه سيمي، اتخذت الذكرى شكل ماراثون ثقافي استمر عشرة أيام، بمشاركة أكثر من 30 ألف شخص، بينهم وفود دولية وأكاديميون وفنانون وإعلاميون. نُصب أكثر من 200 يورت تقليدي، وشارك مئات من العاملين الثقافيين والطهاة والفنيين، إضافة إلى أكثر من 500 متطوع.
ومن 1 إلى 10 أغسطس، شمل البرنامج 70 فعالية: حفلات موسيقية، وعروض مسرحية، ومعارض، ومهرجانات، ومسابقات رياضية. ومن أبرز الأحداث إطلاق المنصة الرقمية “أكاديمية أباي”، وافتتاح قرية إثنية لعرض التراث الكازاخي، ومهرجان “أسيل مورا” الثقافي، وحفل موسيقي بعنوان “عظيم الإنسانية – الحكيم أباي“.
كما تم ترشيح المسابقة الفكرية الوطنية “أباي كويز”، التي يشارك فيها أكثر من 1000 شخص، لتدرج في كتاب أرقام كازاخستان القياسية.