تقارير

رؤية كازاخستان للحوار بين الأديان… 22 عاماً تجسد القيم الإنسانية وتعزز السلام

 

بقلم الدكتور/ عبد الرحيم إبراهيم عبد الواحد

 

أستانا – دبي: في عالمٍ يشهد استقطابًا متزايدًا، وتوترًا دينيًا، وغموضًا جيوسياسيًا، تُعدّ مبادرة كازاخستان لعقد مؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية نموذجًا فريدًا للدبلوماسية الروحية. منذ انطلاقه عام 2003، أصبح المؤتمر أحد أهم منصات الحوار بين الأديان في العالم، إذ يوفر مساحةً محايدةً وشاملةً لقادة الديانات العالمية الرئيسية والمعتقدات التقليدية لتبادل الآراء، والتأكيد على القيم الإنسانية المشتركة، وتعزيز السلام.

ومع استعداد المجتمع الدولي للدورة الثامنة من المؤتمر في سبتمبر 2025، والتي ستُعقد مجددًا في أستانا، يجدر بنا التأمل في كيفية انطلاق هذه المبادرة وكيف تطورت لتلبية متطلبات عالمٍ دائم التغير.

منصة عالمية للحوار والتسامح

تُنظم جمهورية كازاخستان منذ عدة سنوات مؤتمراً دولياً بارزاً يجمع تحت مظلته زعماء الأديان العالمية والتقليدية، في إطار من الحوار البنّاء والتشاور المثمر، سعياً للوصول إلى رؤى مشتركة وحلول فاعلة لمجموعة من القضايا الإنسانية الراهنة. ويُعقد هذا المؤتمر بشكل دوري، حيث بلغ عدد دوراته حتى الآن سبع دورات، كان آخرها في سبتمبر 2022، حين استضافت العاصمة الكازاخية آستانا فعالياته تحت شعار: “دور قادة الأديان العالمية والتقليدية في التنمية الروحية والاجتماعية للبشرية في مرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19″، وذلك بمشاركة 108 من كبار الزعماء الدينيين من أكثر من 60 دولة حول العالم.

ولا شك أن انعقاد هذا المؤتمر يمثل خطوة رائدة نحو تعزيز التفاهم المتبادل، وترسيخ قيم التعايش السلمي، والعمل المشترك من أجل ترسيخ مبادئ الخير والسلام والتعاون بين الشعوب.

ومن أبرز إنجازات هذا المؤتمر، أنه في دورته الثانية عام 2006، تم اعتماد وثيقة مبادئ حوار الأديان، والتي نصّت على أن الحوار ينبغي أن يقوم على الصدق، والتسامح، والتواضع، والاحترام المتبادل بين الأطراف، مع التأكيد على الإصغاء والتأمل والتمعن فيما يُطرح. كما شددت الوثيقة على ضرورة تكافؤ الفرص بين جميع المشاركين في الحوار، والاحترام الكامل للتنوع الثقافي واللغوي بين الشعوب.

وتسعى هذه المبادئ إلى ترسيخ مفهوم أن الحوار ليس منصة للمواجهة، بل وسيلة لتعريف الآخر بالمعتقدات والقيم الدينية بصدق ووضوح، بعيداً عن الإساءة أو التشويه. كما تهدف إلى تعزيز التعايش السلمي، والتعاون المثمر بين الأمم، ودعم التعليم النوعي، وتحفيز وسائل الإعلام على إبراز أهمية الحوار في الحد من مخاطر التطرف والتعصب الديني.

ويرمي المؤتمر أيضاً إلى فتح آفاق جديدة للحوار في المجالات السياسية والاجتماعية والثقافية، بما ينعكس إيجاباً على المجتمعات الإنسانية، ويُسهم في نشر روح التسامح والتفاهم بين جميع الناس، مهما اختلفت أديانهم وثقافاتهم وأعراقهم.

ويُعد مؤتمر زعماء الأديان حدثاً فريداً من نوعه تحتضنه كازاخستان مرة كل ثلاث سنوات، ما يعكس دورها الريادي في دعم مبادرات السلام والحوار العالمي، والتزامها العميق بإعلاء صوت الوسطية، وتعزيز التعاون بين أتباع الديانات، والتصدي للتطرف والتشدد الذي تحاول بعض الجماعات المتطرفة زرعه داخل المجتمعات.

مبادرة جريئة بعد 11 سبتمبر

انعقد المؤتمر الافتتاحي في سبتمبر 2003، في ظل عالم لا يزال يعاني من آثار هجمات 11 سبتمبر وتنامي التطرف الديني. جاءت المبادرة مباشرةً من الرئيس الأول لكازاخستان، نور سلطان نزارباييف، الذي تصوّر أستانا ملتقىً حديثًا للحضارات ومنصةً للتفاهم بين الأديان.

وقد جمع المؤتمر الأول 17 وفدًا من 13 دولة، من بينهم ممثلون عن الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية والشنتوية وغيرها من الديانات التقليدية، كما عزز هذا الإطار الرمزي – عاصمة حديثة بُنيت بطموحات الانفتاح – هوية كازاخستان كجسر بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب.

بدلاً من فرض التوافق اللاهوتي، أعطى المؤتمر الأولوية للاحترام المتبادل، ونبذ العنف، والتعاون من أجل الصالح العام. وقد استرشدت هذه المبادئ الأساسية في كل دورة منذ ذلك الحين.

التقدم على مدى عقدين

منذ عام 2003، يُعقد المؤتمر كل ثلاث سنوات، مما يوسّع نطاق المشاركة ويعمّق أجندته الفكرية والأخلاقية. مع كل دورة، تطور المؤتمر من مجرد تجمع رمزي إلى منتدى استراتيجي يتناول التحديات العالمية من منظور المسؤولية الأخلاقية والتعاون بين الأديان.

ومن المواضيع الرئيسية التي ناقشها المؤتمر على مر السنين: مكافحة التطرف والعنف الديني، الأخلاق والبيئة، دور الدين في مواجهة الأوبئة، والشباب والتعليم في بناء السلام المستقبلي.

كما أتاح التزام كازاخستان بالحياد والتعددية لها استضافة حوارات حساسة وهادفة بين القادة الدينيين الذين قد لا يتشاركون منصةً مشتركةً لولا ذلك. ويحظى المؤتمر الآن بدعم مؤسسي من أمانة دائمة، مما يضمن الاستمرارية بين الدورات وتنفيذ القرارات المتفق عليها.

 

مؤتمر 2025: الوحدة في عالمٍ مُمزق

من المتوقع أن يُبنى المؤتمر المُقبل في سبتمبر 2025 على إرث الدورات السابقة، مع معالجة القضايا العالمية المُلحة، ففي ظلّ تهديدات الصراع الجيوسياسي، وتغير المناخ، وعدم المساواة، والتفكك الثقافي للاستقرار العالمي، تتزايد أهمية السلطة الأخلاقية للقادة الدينيين والروحيين.

ومن المواضيع الرئيسية التي يُحتمل أن تُشكّل مؤتمر 2025 ما يلي:

  • الإيمان وأجندة السلام العالمي: كيف يُمكن للتقاليد الدينية أن تُساهم جماعيًا في حل النزاعات، والدبلوماسية، وبناء السلام؟
  • البيئة الروحية: الدور المُتنامي للأخلاقيات الدينية في الاستجابة لتغير المناخ وحماية الكوكب.
  • الذكاء الاصطناعي والكرامة الإنسانية: مُعالجة التحديات الأخلاقية الناشئة عن التقدم التكنولوجي والتحول الرقمي.
  • التعددية الدينية ومشاركة الشباب: ضمان أن ترى الأجيال الشابة الدين مصدرًا للوحدة والوضوح الأخلاقي، لا للانقسام.

وستكون الدورة القادمة فرصةً لإعادة تأكيد دور الدين في صون كرامة الإنسان، وتعزيز التفاهم بين الحضارات، والدفاع عن المهمشين والمهمشين.

 

دبلوماسية كازاخستان الأخلاقية عالمياً

لا تُعدّ استضافة المؤتمر إنجازًا دبلوماسيًا لكازاخستان فحسب، بل هي انعكاسٌ لهوية الأمة الأوسع، وبفضل مجتمعها المتعدد الأعراق والأديان، تُرسّخ كازاخستان مكانتها كوسيطٍ محايدٍ ومنصّةٍ لبناء السلام. وقد أصبحت عاصمتها، أستانا، رمزًا لهذه الرؤية، فهي لا تستضيف المؤتمر فحسب، بل تستضيف أيضًا محادثات السلام، ومؤتمرات القمة، والمنتديات الإنسانية.

وبقيادة الرئيس قاسم جومارت توكاييف، الدبلوماسي المخضرم في الأمم المتحدة، جددت كازاخستان التزامها بالمؤتمر كجزءٍ من مبدأ “السلام من خلال الحوار”، ومن المتوقع أن تُعزز نسخة عام 2025 من مكانة البلاد الدولية، وتُقدّم قيادةً أخلاقيةً في ظلّ التوترات العالمية المتصاعدة.

 

نموذج للحوار العالمي

مع استعداد العالم للمؤتمر الثامن عام 2025، لم تكن أهمية الحوار بين الأديان أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى، حيث يبرز مؤتمر قادة الأديان العالمية والتقليدية ليس فقط كمنتدى احتفالي، بل أيضًا كمنصة ثاقبة للحوار الأخلاقي، متجاوزًا السياسة والأيديولوجيا.

بجمعه قادة روحيين من جميع القارات والتقاليد، برهنت كازاخستان على أن السلام ممكن عندما تُعطى الأولوية للاحترام المتبادل والشجاعة الأخلاقية والحوار الصادق، وقد لا يحل المؤتمر جميع الأزمات العالمية، لكنه يغرس بذور التفاهم والتعاطف والتعاون، وهي أمور أساسية لشفاء عالم منقسم.

وعلى مدى عقدين من الزمن، أثبت المؤتمر أنه على الرغم من اختلاف الأديان في العقائد، إلا أنها يمكن أن تتحد في هدف واحد: الحفاظ على السلام، وتعزيز الكرامة، وحماية الإنسانية. ويبشر سبتمبر 2025 بتأكيد هذه الرؤية ودفعها قدمًا.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى