كازاخستان تسابق المستقبل لتصبح مركزًا إقليميًا للذكاء الاصطناعي

بقلم الدكتور/ عبد الرحيم إبراهيم عبد الواحد
أستانا – تخوض كازاخستان سباق المستقبل بثقة، مدفوعةً برؤية استراتيجية شاملة تعتبر الذكاء الاصطناعي ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، واضعةً البلاد على أعتاب تحول رقمي غير مسبوق، حيث تسعى إلى ترسيخ مكانتها كأحد أبرز مراكز الابتكار الرقمي في آسيا الوسطى، عبر استراتيجية وطنية شاملة تضع الذكاء الاصطناعي، ومن خلال برامج تعليمية مبتكرة، وبنية تحتية رقمية متطورة، وتشريعات جديدة، تستعد البلاد لمرحلة تحول غير مسبوقة نحو الاقتصاد الرقمي المعتمد على التقنيات المتقدمة.
وفي الوقت نفسه، التقى سعادة سفير جمهورية كازاخستان، روان جومابيك، مع معالي عمر بن سلطان العلماء، وزير الدولة للذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي وتطبيقات العمل عن بُعد في دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث أولى الطرفان اهتمامًا خاصًا لتطوير التعاون الثنائي في مجالات الرقمنة والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، لا سيما مسألة دخول متخصصي تكنولوجيا المعلومات الكازاخستانيين إلى سوق الإمارات العربية المتحدة.
وخلال الاجتماع، ناقش الطرفان مجموعة واسعة من القضايا المتعلقة بتطوير التعاون الثنائي في مجال الرقمنة والاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي، وتم إيلاء اهتمام خاص لمناقشة مسألة دخول المتخصصين الكازاخستانيين إلى سوق الإمارات العربية المتحدة.
وأوضح السفير الكازاخستاني أنه في 8 سبتمبر من هذا العام، ألقى رئيس كازاخستان قاسم توكاييف خطابه السنوي، معلنا إنشاء وزارة الذكاء الاصطناعي والتنمية الرقمية في كازاخستان قريبا.
وفي الوقت نفسه، أبلغ السفير الكازاخستاني عن المشاركة المخطط لها لكازاخستان في أكبر معرض للتكنولوجيا جيتكس جلوبال 2025، والذي سيعقد في دبي في الفترة من 13 إلى 17 أكتوبر من هذا العام.

بناء جيل رقمي منذ المدرسة وحتى الجامعة
وضعت وزارة التعليم في كازاخستان حجر الأساس لمجتمع رقمي مستدام، بإطلاق برنامج وطني ضخم بالتعاون مع اليونسكو لتدريب أكثر من 200 ألف معلم على دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في العملية التعليمية، وقد حصل 140 ألفًا منهم بالفعل على شهادات معتمدة، مع مشاركة واسعة من معلمي شيمكنت وتركستان وزنبيل.
يتعلم المعلمون إعداد الدروس التفاعلية، تصميم الاختبارات، وإنشاء مواد تعليمية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مع الالتزام بمعايير أخلاقية واضحة، عبر منصة LMS الوطنية مجانًا.
ولم يتوقف الأمر عند المعلمين، إذ أصبحت دراسة الذكاء الاصطناعي مادة إلزامية في 93 جامعة حكومية، ضمن خطة شاملة لإدخال 25 تخصصًا جديدًا في هذا المجال. كما أُدرج مشروع “Aisana” في المناهج ليمنح الطلاب خبرات عملية مباشرة، وبلغ عدد الطلاب الذين اجتازوا الدورات التمهيدية أكثر من 390 ألف طالب.

مبادرات وطنية لتمكين الشباب مستقبلا
أطلقت وزارة التنمية الرقمية والابتكار والصناعة الفضائية بالتعاون مع Astana Hub عدة برامج وطنية لنشر الثقافة الرقمية بين جميع فئات المجتمع.
من أبرزها برنامج “Tech Orda” الذي درّب نحو 10 آلاف شاب على مهارات البرمجة وعلوم البيانات والأمن السيبراني، وبرنامج “Tomorrow School” كأول مدرسة للذكاء الاصطناعي بالتعلم الذاتي في البلاد، إلى جانب برنامج “IT-Áiel” الذي نجح في تدريب 5500 امرأة على المهارات الرقمية خلال ثلاث سنوات.
كما يجري افتتاح مركز TUMO Center for Creative Technologies في أستانا لتدريب الشباب من سن 12 إلى 18 عامًا على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتصميم الثلاثي الأبعاد والروبوتات والبرمجة التفاعلية.
بنية تحتية رقمية متطورة ونماذج وطنية مبتكرة
على صعيد البنية التحتية، دشّنت كازاخستان أقوى حاسوب فائق في آسيا الوسطى في مركز البيانات التابع لوزارة التنمية الرقمية، مدعومًا بمعالجات NVIDIA H200 من شركة NVIDIA. ويستخدم هذا النظام المتقدم لتشغيل أول نموذج لغوي ضخم وطني هو KazLLM، إلى جانب نموذج توليد الصور Beynele ونموذج متعدد الوسائط لمعالجة الصوت واللغة باسم Oylan.
كما أُطلق مركز Alem.AI الدولي للذكاء الاصطناعي الذي يضم مختبر AlemLab لإجراء بحوث متقدمة في التعلم الآلي وتطوير منتجات واقعية للقطاعين العام والخاص.
وفي المجال اللغوي، طوّر مركز طِل-قازينا الوطني للبحوث التطبيقية نموذج Tilqazyna لتعليم اللغة الكازاخية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو قادر على توليد النصوص وتصحيح القواعد وتحليل السياق، مع خطط لتحويله إلى تطبيق ذكي مزوّد بمساعدات صوتية.

بيئة خصبة الاستثمار التكنولوجي
تشهد كازاخستان نشاطًا لافتًا في قطاع الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي، من أبرزها شركة Higgsfield التي جمعت 50 مليون دولار في جولة تمويل من الفئة A، وحققت أكثر من 1.2 مليار مشاهدة خلال خمسة أشهر عبر منصتها التي توفّر أدوات إنشاء الفيديو بالذكاء الاصطناعي للمبدعين والشركات.
كما تحتضن البلاد منصات وحاضنات ريادة أعمال مثل MOST وTerricon Valley وAstana Hub، التي تقدم الدعم التقني والتمويلي والتدريبي للمبتكرين ورواد الأعمال، بهدف تحويل كازاخستان إلى مركز إقليمي لتصدير الحلول الرقمية بقيمة 5 مليارات دولار بحلول عام 2029.
تشريعات لعصر رقمي شامل
على الصعيد التشريعي، أعلن الرئيس قاسم جومارت توكاييف عن تأسيس وزارة الذكاء الاصطناعي والتطوير الرقمي الجديدة لتتولى قيادة التحول الرقمي في البلاد، إلى جانب الإسراع في إقرار “مدونة الرقمنة” لتكون الإطار القانوني الشامل لاستخدام الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة والمنصات الرقمية.
كما يجري إنشاء صندوق وطني للأصول الرقمية تديره البنك الوطني الكازاخستاني لتجميع احتياطي استراتيجي من العملات المشفرة والأصول الرقمية الواعدة، وربطها بـالتنغي الرقمي ضمن منظومة التمويل الوطني.

خطوات استراتيجية نحو ريادة الذكاء الاصطناعي
إدماج الذكاء الاصطناعي في القطاع العام: تنفّذ الحكومة برنامج AI Qyzmet الذي دمج أدوات الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية، ودرّب حتى الآن أكثر من 16 ألف موظف، بهدف تحسين كفاءة الأداء وتسريع الخدمات وتقليل البيروقراطية.
تنمية المواهب في سن مبكرة: نظّمت كازاخستان أول الأولمبياد الوطني للذكاء الاصطناعي لطلاب المدارس، بمشاركة مئات المتنافسين، تأهل منهم 40 للنهائيات و12 للمشاركة في الأولمبياد الدولي للذكاء الاصطناعي في بكين، في خطوة تهدف إلى اكتشاف المواهب وصقلها عالميًا.
تشجيع البحث العلمي والتعاون الدولي: يبرز معهد الأنظمة الذكية والذكاء الاصطناعي في جامعة نزارباييف كمركز وطني رائد طور نماذج KazLLM وBeynele وOylan، ويعمل على توسيع الشراكات مع مؤسسات بحثية دولية لتطوير تطبيقات في الصحة والصناعة واللغة.
البُعد الاقتصادي والاستثماري: أكد الرئيس توكاييف أن الذكاء الاصطناعي أصبح عنصرًا أساسيًا في الاستراتيجية الاقتصادية الوطنية، مشيرًا إلى هدف جذب 10 آلاف متخصص في الذكاء الاصطناعي سنويًا، إلى جانب إنشاء صندوق وطني للأصول الرقمية تحت إشراف البنك الوطني الكازاخستاني لدعم الابتكار وتمويل المشاريع التكنولوجية المستقبلية.
مركز للابتكار في آسيا الوسطى
بفضل هذه الخطوات المتسارعة، تضع كازاخستان نفسها في طليعة الدول الطامحة إلى قيادة الثورة الصناعية الرابعة في آسيا الوسطى. فاستثمارها في التعليم والبنية التحتية والبحث العلمي وريادة الأعمال، مقرونًا بإرادة سياسية واضحة، يجعلها مرشحة لتكون مركزًا إقليميًا للذكاء الاصطناعي خلال السنوات القليلة المقبلة.




